من يشتري الجنة؟
الدكتور راغب السرجاني
مقدمة
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه, ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
وبعد...
استوقفتني كلمة جميلة لأبي هريرة – رضي الله عنه - توضح جانبًا من حياة ذي النورين عثمان بن عفان – رضي الله عنه - .. فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه (متحدثًا عن عثمان):
"اشترى عثمان الجنة من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين..!!"
وقد نسأل أنفسنا: بأي ثمن اشترى عثمان الجنة؟؟!
إن لشراء الجنة طرقًا كثيرة:
• قد تشتري الجنة بركعتين خاشعتين في جوف الليل..
• قد تشتري الحنة بكلمة حق.. تردُّ ظالمًا.. أو تنتصر لمظلوم..
• قد تشتري الجنة بصيام يوم حارٍّ في سبيل الله..
• وقد تشتريها ببسمة ودٍّ صافية في وجه أخيك..
• .. أو مسحة كفٍّ حانية على رأس يتيم....
• ..... ..... ...... ....... ...... ......
حقًّا يا إخواني.. ما أكثر طرق شراء الجنة!
ولكن.. أيَّ هذه الطرق سلك عثمان؟؟
والجواب.. عند أبي هريرة.. يقول:
".. حين حفر بئر رومة! وحين جهز جيش العسرة..!"
في كلتا المرتين – وفي غيرهما – سلك عثمان في شرائه للجنة طريقًا تميَّز به كثيرًا طوال حياته رضي الله عنه.. ذلكم هو طريق:
"الجهاد بالمال.."
ومما لا شكَّ فيه.. أن الجهاد بالمال من أهم طرق شراء الجنة..
الجهاد بالمال عبادة تحتاج إليها كل قضايا المسلمين اليوم.. في فلسطين والعراق وغيرهما... فلا يُعقل أن يكون المسلمون صادقين في تعاطفهم مع إخوانهم المجاهدين في أي أرض إسلامية محتلة.. دون أن يكون لهذا التعاطف صدًى واقعي مادي.. فلا يعرف التاريخ قضايا نُصرت بالتعاطف المجرد، أو بالكلمات المنمقة والشعارات الرنانة..
ولا يُعقل أيضًا أن يتحمل فريق من أمة الإسلام وحده عبء صد العدو وتحرير الأرض بالمال والنفس جميعًا.. بينما يكتفي سائر المسلمين بالمراقبة لما يحدث والتعاطف السلبي – إن وصل الأمر للتعاطف السلبي – دون أن تتعدى المشاركة هذه الشكليات إلى دعم مادي يساهم بفعالية في إخراج المسلمين من أزماتهم!
في هذه الأسطر نحاول - إن شاء الله - إلقاء الضوء على قضية الجهاد بالمال.. كطريق من طرق شراء الجنة.. وكعنصر أساسي من عناصر التضحية في سبيل الله.. لا يُرجى نصر للأمة - لا في فلسطين ولا في غيرها – إلا برسوخه في وجدان المسلمين وسلوكهم..
وقد يلحظ القارئ الكريم في هذه السطور تركيزًا على الواقع الفلسطيني دون غيره من مآسي المسلمين مع أهميتها وإلحاحها جميعًا.. وإنما مردُّ ذلك إلى كون هذه الكلمات ألقيت ضمن سلسلة محاضرات كانت تركز على القضية الفلسطينية في الأساس.. ومعلوم أن سائر مواطن الألم في جسد الأمة تلتقي معًا في احتياجها للجهاد بالمال.
وغني عن البيان أن لدعم قضايا المسلمين مقومات أخرى – إلى جانب الجهاد بالمال – كوضوح الرؤية, وقتل الهزيمة النفسية.. فضلاً عن تثبيت دعائم الإيمان وتقوية الروابط بين المؤمنين..
ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.
لقطات.. قبل البداية..
اللقطة الأولى: رجل يعول أسرة مكونة من عشرة أفراد.. يعمل خارج مدينته.. يخرج كل يوم إلي عمله فإذا بالمعابر مغلقة والمدينة محاصرة... فيعود إلى أهله خالي الوفاض!!
اللقطة الثانية: شيخ يمتلك متجرًا.. لا يستطيع أن يفتحه إلا قليلاً؛ فالحالة الأمنية حرجة جدًا, وأبناء يهود يعيثون في الأرض فسادًا.. وإذا فتحه يومًا لا يشتري منه إلا القليل؛ فالمال قد قل في الأيدي, والفقر قد عمَّ في الأرض...
اللقطة الثالثة: خمس عائلات قُصف منزلهم, وبُدّد متاعهم, وضاعت أملاكهم.. وهم يبحثون عن مأوى وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت...
اللقطة الرابعة: عائلة مكونة من أب وأم تجاوزا الستين, وتسعة أبناء: أكبرهم في السادسة والعشرين.. أما الأب فلا يعمل, والابن هو من يعول الأسرة.. خرج هذا الابن في مسيرة غاضبة يحمل حجراً يواجه اليهود.. فإذا به يتلقى رصاصة في صدره فيلقي ربه.. وتفقد العائلة عائلها!!
ولقطة خامسة: رجال من أمتنا مجاهدون صابرون.. باعوا أرواحهم لله, واشتروا الجنة.. يريدون سلاحًا أقوي من الحجر.. لكن هذه ظروف ارتفع فيها ثمن السلاح, وقلت مصادره, وقد لا يُشترى إلا من يهودي بأضعاف أضعاف ثمنه, والرجال المجاهدون لا يستطيعونه.. فيتركون السلاح, ويحملون الحجر....
إخواني في الله.. أتظنون هذه اللقطات نادرة؟! أتظنون أننا بذلنا مجهودًا حتى نجدها؟؟! كلا, والله.. هذه لقطات متكررة في كل مدينة.. في كل قرية.. في كل شارع.. بل في كل بيت.. هذه هي فلسطين.. الأرض المقدسة.. وهؤلاء هم إخواننا وآباؤنا وأمهاتنا وأبناؤنا... هذه لقطات تحتاج إلى تفاعل.. تلتقي جميعًا في احتياجها إلى علاج واحد.. هو الجهاد بالمال.
وأنا أعلم أن الحديث عن بذل المال ليس بالحديث المحبب إلى النفوس؛ ذلك أن حب المال والضن به جزء من فطرة هذه النفوس.. وما أسهل الكلام المجرد مهما علت حرارته طالما كان الأمر بعيدًا عن إخراج المال وبذله.
أخي الكريم إذا كنت، تشعر في قلبك بحب شديد للمال, وتعلق كبير به, ورغبة في الاحتفاظ به وتنميته.. فاعلم أن هذا شيء طبيعي تمامًا.. بل إن العجيب ألا تشعر بذلك! هذا التعلق بالمال أمر لا يتعارض بالمرة مع الفطرة السليمة, وأنا أعذرك تماما في هذا الحب للمال؛ لأنه فطرة.. بل إن رسول الله صلي الله عليه وسلم يعذرك! بل إن الله عز وجل ذاته يعذرك!! لا تتعجب, وتعال نسبح سوياً في آيات الله عز وجل.. أرأيت قوله تعالي في وصفه لبني آدم: "وتحبون المال حبًا جمًا" (سورة الفجر ـ آية 20) وحتى إن لم تعرف المعنى الدقيق لكلمة: "جَمًّا.." فإنك ستفهم مقصودها.. هكذا بثقلها: "جَمًّا!!".. يقول ابن كثير في معناها: "جَمًّا" أي: كثيراً فاحشاً.. أي أن الإنسان جُبِلَ علي حب المال حبًا كثيرًا فاحشاً!! هذا وصف الله الخبير بما خلق.. العليم ببواطن النفس, وما تخفي الصدور.. انظر إلي حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يكشف بوضوح أسرار النفس البشرية... إنه رسول عظيم.. طبيب ماهر، صلي الله عليه سلم! يضع إصبعه بسهولة علي موطن الداء, ويصف بلسانه العذب كيف الدواء.. انظر إليه - صلي الله عليه سلم - (في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني رحمهما الله) عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه وأرضاه – قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى إليهما آخر"!! فهكذا جُبل الإنسان علي حب المال ، والسعي وراءه. ثم يقول: "ولا يملأ بطن بن آدم إلا التراب, ويتوب الله علي من تاب".. انظر إلي روعة التشخيص في كلامه (صلي الله عليه سلم)! إن غريزة التملك, وغريزة الكنز, وغريزة السيطرة.. أمور داخلية أصيلة متشعبة في النفس متغلغلة في الوجدان.
وكم تعبنا من علماء صوروا لنا الصالحين كالملائكة ليست لهم نفوس البشر, لا يخطئون ولا يعصون لا يفترون عن عبادة ولا يركنون إلى راحة!.. وليس الأمر كذلك؛ فالإسلام دين يعترف بنقائص النفس البشرية فلا يوجد من لا أخطاء له إلا الله سبحانه وتعالى, ولا يوجد من لا شهوات لديه إلا الله سبحانه وتعالى..
ثم انظر إلى الآية الربانية العجيبة - وكل آيات الله عجيب - والله ما قرأتها إلا ووقفت مبهوراً أمامها, عاجزاً عن تخيل كل أبعادها.. يخاطب رب العزة جل شأنه بني آدم, فيقول: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي.. إذن لأمسكتم خشية الإنفاق, وكان الإنسان قتورا" (سورة الإسراء ت آية 100) سبحان الله! هل تتخيل خزائن الرحمة الإلهية؟ إنه لمن المستحيل أن تحيط بها.. إن السموات والأرض وما بينهما لأمر هين بسيط في هذه الخزائن الإلهية.. لو أن ابن آدم يملك هذه الخزائن, وتُرك لهواه وفطرته وطبيعته دون تعديل ولا توجيه ولا تهذيب.. ماذا يفعل؟ سيمسك خشية الإنفاق!! مع أن هذه الخزائن لا تنتهي.. ولن تنتهي!! لكن من فطرته الإمساك.. ".. وكان الإنسان قتوراً" يقول ابن عباس وقتادة (رضي الله عنهما): أي: "بخيلاً مَنُوعًا".
القضية – إذن – عسيرة, والإنفاق صعب, ولا يعجبني أبدا أن يتكلم الواعظ عن الإنفاق وكأنه أمر يسير بسيط.. من لم يفعله كان دليلاً علي فساد فطرته, أو ضياع دينه.. فالأمر عسير شاق بالفعل.. وإن كنت في شك من ذلك فأجبني: أي الشيئين أغلى: نفسك أم مالك؟ إن النفس أغلى دون شك, أما المال فيذهب ويجيء.. تذكَّر هذه المقارنة السابقة, ثم تأمل الآيات القرآنية التي جمع الله فيها بين النفس والمال في أمور الجهاد.. لقد قمت ببحث عن تلك الآيات, فكانت ثماني مرات!! وجدت فيها أمرًا عجيبًا.. لقد قدَّم الله المال على النفس سبع مرات؛ وكأنه أشق وأصعب:
• "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله.. وأولئك هم الفائزون" (سورة التوبة آية 20)..
• "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين" (سورة التوبة آية 44)..
الآية الوحيدة التي قدم الله فيها النفس علي المال كانت: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. بأن لهم الجنة" (سورة التوبة آية 111) إلى آخر الآية.. هنا قدم الله النفس لأنه سبحانه وتعالى الذي يشتري, ويعلم أيهما أغلى: النفس أم المال.. بمعنى أن الإنسان من شدة تمسكه بالمال قد يتحرج في الجهاد به أكثر من تحرجه في الجهاد بنفسه!!
ولهذا الأمر تطبيق كبير في الواقع.. وجدناه في أنفسنا وفي من حولنا.. وجدنا من يقدم كنز ماله على نفسه وراحتها ومتعتها!! قد يخاطر بسمعته من أجل المال, مع أن تلويث السمعة إيذاء للنفس! قد يخاطر بحريته من أجل المال, وتقييد الحرية إيذاء للنفس! قد يخاطر بإراقة ماء الوجه من أجل المال, وإراقة ماء الوجه إيذاء للنفس! بل قد يخاطر بإخوانه وأحبابه.. وحتى بأبنائه من أجل المال؛ يتركهم أعواما وأعواما.. يعمل بعيدا وحيدا حزينا من أجل المال, وترك الأهل والأحباب إيذاء للنفس!
وفوق كل ذلك.. قد يخاطر الرجل بحياته ونفسه من أجل المال, وهذا ليس مجرد إيذاء للنفس.. بل هو تضييع لها!! نشاهده كثيراً.. أرأيتم المرتزقة كيف يقاتلون في المعارك الضارية من أجل المال؟ أرأيتم السائق كيف يقود سيارته وهو يغالب النعاس, فلا يركن إلي راحة معرضًا حياته وحياة من معه للضياع من أجل المال؟ أرأيتم مريض القلب طبيبًا كان أو مهندسًا أو تاجرًا.. كيف لا يكف عن الإرهاق في عمله وهو يعلم أنه يعرض نفسه لموت من أجل المال؟؟..
حب المال – إذن - متغلغل تماما في النفس البشرية, مسيطر تماماً علي جنباتها.. لماذا؟ لماذا يخلق الله جلت قدرته وتعاظمت حكمته الإنسان علي هذه الجبلة؟ لماذا يفطره علي هذه الفطرة؟ ما الحكمة الربانية الجليلة وراء ذلك؟ هذا ما أسميه "فلسفة الابتلاء".. الله سبحانه وتعالي - بقدرته وحكمته - زرع في النفس أمورًا متأصلة فيها, وعظم جدًا حبها فيها.. ولما علم سبحانه وتعالى أنك أصبحت تحبها حبا جما, ولا تطيق لها فراقًا.. هنا طلب منك أن تبذلها في سبيله, وتنفقها من أجله.. حتى تثبت أنك تقدِّم حب الله علي حب شيء متأصل عميق في الفطرة, وهذا دليل الصدق في حب الله.. ولو طلب الله من الخلق بذل شيء بسيط زهيد لنجح في الاختبار الصادقون والكاذبون.. الأمر ليس تمثيلية هزلية.. الاختبار حقيقي وجاد.. بل هو عسير وشاق, ولكونه عسيرًا وشاقًّا فإن المكافأة سخية والجائزة عظيمة.. بل هي أعظم من أن يتخيلها البشر, أو تخطر علي أذهانهم.. إنها الجنة!! لو أدركتم حقيقتها لذبتم اشتياقًا إليها.. لو أدركتم حقيقتها ما طابت لكم حياة علي الأرض.. لو أدركتم حقيقتها ما خاطرتم بها, ولو كان الثمن خزائن الأرض وكنوز الدنيا بأسرها... ترجمة هذا أنك تجد في نفسك حبًّا فطريًّا, وميلاً غريزيًّا للمال, ثم يطلب الله منك أن تنفقه في سبيله.. هنا لا بد أن تعقد مقارنة سريعة حتمية في داخلك: أيهما تحب أكثر: المال..؟ أم الله؟! نعم يا إخوة, هذه هي الحقيقة بكاملها: المال.. أم الله؟؟! كل إنسان سيقول بلسانه: أختار الله على ما سواه.. لكن لابد أن يصدِّق العمل قول اللسان، وإلا فما معني الاختبار؟!
وترجمة هذا أيضا أنك تجد في نفسك حبًّا فطريا للآباء والأبناء والأزواج والعشيرة, ثم يأتي موقف إما أن تُرضي فيه الأحباب, وإما أن ترضي فيه الله.. وعليك أن تعقد مقارنة سريعة: الأحباب..؟ أم الله؟! وتذكَّر أن الإجابة ستكون بالفعل لا بالقول.. الأمر جدُّ خطير, والقضية مصيرية في حياة الإنسان: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره, والله لا يهدي القوم الفاسقين"(سورة التوبة آية 24 ) انظر إلي هذه المقارنة.. الجهاد جزء من حب الله ورسوله لكن لماذا يذكر في هذا المقام؟ حتى يلفت النظر إلي قضية: (الفعل لا القول)؛ فلا يكفي أن تقول: أحب الله أكثر.. ولكن لابد من الجهاد في سبيله, وبذل هذه الأشياء الثمانية المذكورة في الآية..
ولكن.. ماذا لو لم تفعل؟ "..فتربصوا حتى يأتي الله بأمره, والله لا يهدي القوم الفاسقين".
أنا أريد أن أحفزكم إلى معاكسة فطرتكم, ومخالفة ميلكم, ومقاومة غريزتكم.. وهو أمر من الصعوبة بمكان - كما ترون - ولأني أعلم أني أضعف من أن أحفزكم بقولي, فقد آثرت أن أحفزكم بقول العليم ببواطنكم.. الخبير بخفايا نفوسكم.. القدير علي تصريف قلوبكم... سأذكر لكم طريقة الله عز وجل في التحفيز على الإنفاق, وهي طريقة عجيبة فريدة معجزة, جديرة بأن تدرس بعمق, وتُفهَمَ بعناية, وهي طريقة تختلف كثيراً عن طريقته سبحانه وتعالى في التحفيز علي أمور الخير الأخرى.. طريقة تشعرك فعلا أن قضية إنفاق المال قضية محورية في مسألة الابتلاء و الاختبار, بل هي قضية محورية في إثبات صدق إيمان العبد.. ولكونه يعلم سبحانه أن إخراج المال شاق وعسير, فقد نوَّع في طريقته, وعلَّم رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم وسائل فريدة لتحفيز المسلمين نحو حب الإنفاق, والوقاية من شح النفوس..
هذه الوسائل.. هي موضوع الصفحات التالية.
كيف تحب الإنفاق في سبيل الله؟
أولاً: والثمن.. الجنة!
جعل الله سبحانه وتعالى الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال.. فعلى سبيل المثال يقول سبحانه وتعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم, وجنة عرضها السموات والأرض.. أعدت للمتقين؛ الذين ينفقون في السراء والضراء, والكاظمين الغيظ, والعافين عن الناس, والله يحب المحسنين" (سورة آل عمران آية 133) فأول صفة تُذكر للمتقين: أنهم ينفقون في السراء والضراء! يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: في الشدة والرخاء, والمنشط والمكره, والصحة والمرض... وفي جميع الأحوال".
ويتضح بالفعل أننا نعاني من قصورٍ شديدٍ في فهم حقيقة الجنة.. فالجنة كلمة كان لها فعل عجيب في نفوس الصحابة؛ فكانوا يستعذبون الآلام في سبيلها, ويستمتعون بالموت من أجلها!!
"الجنة".. كثيراً ما تتردد علي أسماعنا؛ فلا تُحدث في قلوبنا ما كانت تحدثه في قلوب الصحابة, ولابد أن نقف مع أنفسنا لحظات؛ فنسألها: لماذا؟! لقد سمع هذه الآية السابقة ذاتها عمير بن الحمام (رضي الله عنه وأرضاه) في غزوة بدر, فماذا فعلت فيه؟؟
روى الإمام مسلم رحمه الله, عن أنس بن مالك رضي الله عنه, أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله, جنة عرضها السموات والأرض؟؟! أصابت الكلمة قلبه لا أذنه!!.. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "نعم".. قال عمير: بخٍ بخٍ!! فقال رسول الله صلي الله عليه سلم: "ما يحملك علي قولك بخٍ بخٍ؟!".. قال: لا والله يا رسول الله.. إلا رجاء أن أكون من أهلها.. قال: "فإنك من أهلها!" بشرى من الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم.. فأخرج تمرات من قرنه, فجعل يأكل منهن ليتقوى علي المعركة, ثم قال: لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه.. إنها لحياة طويلة!! حياة طويلة تفصله عن الجنة!! قال أنس بن مالك: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل.. موعده الجنة؛ فكيف يصبر علي الحياة؟!!
بل ارجع إلى بيعة العقبة الثانية, وتأمل ذلك الموقف الرائع! فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن جابر رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله, علام نبايعك؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل, وعلى النفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعلى أن تقوموا في الله.. لا تأخذكم في الله لومة لائم, وعلي أن تنصروني إذا قدمت إليكم, وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم.." شروط قاسية وخطيرة, وعهد غليظ ومؤكد..
هنا.. وقبل أن يبايعوا - كما في رواية ابن إسحاق - يقول العباس بن عبادة بن نضلة (رضي الله عنه وأرضاه) لقومه ينبّههم إلي خطورة البيعة: "هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم!.. قال: إنكم تبايعونه علي حرب الأحمر والأسود من الناس؛ فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَتْ أموالُكُم مصيبةً, وأشرافُكُم قَتلاً أسلَمْتُمُوه.. فمن الآن؛ فهو والله - إن فعلتم - خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافُون له بما دعوتموه إليه علي نهكة الأموال وقتل الأشراف, فخذوه؛ فهو – والله - خير الدنيا والآخرة.. قالوا: "فإنا نأخذه علي نَهَكَةِ الأموال وقَتْلِ الاشراف!!" قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله.. إن نحن وفينا بذلك؟ (ما هو الثمن لكل هذه التضحيات النادرة, والأحمال الثقيلة, والتبعات العظيمة؟؟) قال صلى الله عليه وسلم: "الجنة..!!" والجنة فقط!! قالوا: ابسط يدك.. فبسط يده, فبايعوه!.. لقد باع الأنصار كل شيء يملكونه من نفس ومال وراحة وأمن وأهل وديار... باعوا كل شيء, واشتروا شيئًا واحدًا: "الجنة.." ونزلت الكلمة بردًا وسلامًا على الأنصار, فاطمأنت القلوب, وخشعت الأبصار, وسكنت الجوارح..
وكانت الهجرة بعد هذه البيعة الغالية بقليل.. وكلنا يعلم كم ضحى المهاجرون ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكني – هنا – أذكركم فقط بموقف صهيب رضي الله عنه أثناء هجرته.. أورد ابن عبد البر القصة عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: خرج صهيب مهاجرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فاتبعه نفر من المشركين, فانتثر ما في كنانته (أي أخرج ما في كنانته من سهام) وقال لهم: يا معشر قريش, قد تعلمون أني من أرماكم (أحسنكم رميًا بالسهام), ووالله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم معي, ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه في يدي شيء.. فإن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه.. قالوا: فدلنا على مالك ونخلي عنك. فتعاهدوا على ذلك, فدلهَّم, ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربح البيع أبا يحيى!!". فأنزل الله تعالى فيه: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.. والله رءوف بالعباد"..
أرأيتم؟! "ربح البيع..!" وكيف لا يربح وقد اشترى الجنة (سلعة الله الغالية) بما كان يملك من مال؟!.. والجنة باقية (خالدين فيها..), والمال عَرَض زائل!!
كيف لا يربح وقد قال الله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. بأن لهم (الجنة!)... ثم يقول بعد قليل في نفس الآية: "فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به.. وذلك هو الفوز العظيم!!"
لقد كان تجاوب الصحابة مع وعد الله بالفوز والجنة سريعًا وواقعيًّا بصورة لافتة للنظر.. تأمل رد فعل أبي طلحة الأنصاري تجاه آية واحدة من كتاب الله.. طالما قرأناها!
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل, وكان أحب أمواله إليه "بيرحاء" (اسم بستانه من النخل)، وكانت مستقبلة المسجد, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب.. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون".. قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, إن الله تبارك وتعالى يقول: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون", وإن أحب أموالي إلي "بيرحاء".. وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرَهَا عند الله.. فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بخٍ!! ذلك مال رابح! ذلك مال رابح!.. وقد سمعتُ ما قلتَ, وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله.. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه..
هكذا تعامل مع وعد ربه بصدق وصراحة.. ودون تسويف بحث عن أفضل ما يحب من ماله (بستانه!!) وبذله لربه في كلمة واحدة!! ولم يكن هذا السلوك استثناءً في أخلاق الصحابة.. ولا كان لحظة تسرُّعٍ من أبي طلحة.. كل ما هنالك أنهم كانوا يرون الجنة أمامهم بكل ما فيها من نعيم.. يرونها دائمًا.. أمام كل قول أو فعل أو تضحية..
وما أدراك ما الجنة؟
روى الإمام مسلم رحمه الله عن المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "سأل موسى عليه السلام ربه: "ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ, فيقال له: ادخل الجنة.. فيقول: أَي رب.. كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب.. فيقول: لك ذلك ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ! فقال في الخامسة: رضيت رب!! فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله!.. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك..! فيقول: رضيت رب!" قال موسى عليه السلام: رب فأعلاهم منزلة؟! قال: أولئك الذين أردت, غرست كرامتهم بيدي, وختمت عليها؛ فلم تَرَ عينٌ ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر".. قال صلى الله عليه سلم: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين"..
وليس معنى ذلك أن يقتصر المسلم في سعيه إلى الجنة على الرغبة في أدنى الدرجات, بل هو مأمور بالحرص على المعالي, وطلب الفردوس الأعلى في الجنة.. برفقة النبي (صلي اله عليه وسلم) الذي يقول: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس". اللهم إنا نسألك الفردوس..
الحديث عن الجنة يطول ويطول.. ولابد أن نراجع معلوماتنا ومعايشتنا وأحوالنا مع الجنة.. وأنا على يقين من أن الجنة لو تعاظمت في صدورنا لهان علينا ما نحن بصدد المجاهدة لتحقيقه.. والله المستعان.
ثانيًا: بين الصلاة والإنفاق:
كثيرًا ما جمع الله بينهما في قرآنه.. ومن المعروف أن الصلاة عماد الدين, وهي أهم عبادة في الإسلام.. ومن ثَمَّ يأخذ الإنفاق في سبيل الله من قلب المؤمن حيّزًا يقترب من حيز الصلاة.
تأمل قوله تعالى: "إن الإنسان خلق هلوعًا, إذا مسه الشر جزوعًا, وإذا مسه الخير منوعًا" (سورة المعارج آية 19. 20. 21) صفات أساسية مجبول عليها الإنسان: الهلع, والجزع, والمنع: أي البخل.. ثم يأتي الاستثناء: "إلا المصلين, الذين هم على صلاتهم دائمون.." فالصلاة أولاً.. ثم ماذا؟.. "والذين في أموالهم حق معلوم.. للسائل والمحروم". فجاء الإنفاق تاليًا للصلاة مباشرة..
فهم ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى صار منهج حياتهم.. فقد روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "أُمرنا بإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة.. فمن لم يُزَكِّ فلا صلاة له.."
ومن هنا كان هذا الموقف الحاسم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه.. ذاك الرجل الذي لا تنقضي عجائبه!! فإنه لما ارتدت القبائل, وكان منها من ارتد بمنع الزكاة فقط, رأى بعض الصحابة أن أهل هذه القبائل ما داموا قد شهدوا أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله.. فلا يقاتَلون.. أما الصديق رضي الله عنه فكان يعلم أن الجميع متفقون على أن منكر الصلاة كافر.. ولاحظ هو رضي الله عنه أن الله قد جمع بين الزكاة (الإنفاق) وبين الصلاة في مواضع كثيرة جدًا في القرآن الكريم, فقال قولته الحكيمة: "لا أفرق بين شيئين جمعهما الله"!! انظر إلى الفقه! فإذا كان حكم إنكار الصلاة كفرًا, والله قد جمع بين الصلاة والزكاة كثيرًا.. فإنكار الزكاة كفر إذن..
المهم عندنا أن نفهم أن هذا الجمع بين الصلاة والإنفاق لم يتكرر بين الصلاة وشيء آخر.. مما يحفز المؤمن على الاهتمام بالإنفاق والتدريب عليه..
ثالثًا: " لولا أخرتني..؟!"
ومن وسائل التحفيز: "التحذير من التسويف والتأجيل", وهذه آفة خطيرة؛ فالشيطان لا يأتي للصالحين يقول لهم: لا تدفعوا أموالكم لفلسطين.. ولكن ويأتي ويقول: فلتدفعوا غدًا.. أو بعد غدٍ.. أو فلتدفع بعد أن تشتري كذا وكذا.. أو فلتدفع بعد أن يأتي لك مبلغ كذا وكذا... الشيطان إذن يستعمل وسيلة التسويف, ولا شك أنها فعالة! استمع إلى قوله تعالى يحفزك على الإنفاق: "وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدَكم الموتُ فيقولَ رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّقَ وأكن من الصالحين! ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون" (سورة المنافقون آية 10 ، 11)
فلو خطر على ذهنك الآن أن تدفع شيئًا لأهلك في فلسطين فأخرجه الساعة.. حدد الآن بينك وبين نفسك.. أو بينك وبين الله رقمًا ستدفعه اليوم.. إن لم تكن تحتفظ به في جيبك فلا تسوف, وإن جاءك الموت قبل أن تصل إلي بيتك ومالك فستؤجر بنيَّتك..
تصدق؛ فقد تكون هذه الصدقة هي المرجحة لكفة الحسنات؛ فتسعد سعادة لا شقاء بعدها!
رابعًا: سبعمائة.. لا عشرة..!!
ومن وسائل التحفيز على الإنفاق – أيضًا - مضاعفة الحسنات بشكل فريد.. فإننا في كل أمور الخير قد اعتدنا أن تضاعَفَ الحسنات إلى عشر أمثالها.. كما في قوله سبحانه وتعالي مثلا: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.. ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها, وهم لا يظلمون" (سورة الأنعام آية 160)
أما في الإنفاق.. فالأمر مختلف؛ ذلك أن الإنسان جُبل - كما ذكرنا - علي حب المال, ويحتاج إلى دوافع كبيرة, ومحفزات عظيمة.. فيزيد الله في أجر الإنفاق أكثر من أمور الخير الأخرى؛ حيث يتضاعف إلى أجور كثيرة.. إلى سبعمائة ضعف!!
انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل, في كل سنبلة مائة حبة, والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم" (سورة البقرة آية 261) والله إنه مشروع اقتصادي هائل!! لو أنفقت ألف جنيه لأهل فلسطين كان المردود ما يوازي سبعمائة ألف جنيه!! لابد أن تفكر.. لماذا توافق على أن تضع ألف جنيه في مشروع دنيوي يعود عليك بألفين مثلاً.. ولا تضعها في مشروع رباني يعود عليك بسبعمائة ألف؟؟! مع أن المشروع الأول دنيوي غير مضمون, والمشروع الثاني رباني مضمون لا شك فيه؟!! فكِّر.. والحمد الله أنك مازلت حيًّا, ومازالت أمامك الفرصة للاستثمار.. روى الإمام أحمد والترمذي وصححه.. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقبل الصدقات, ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم, كما يربي أحدكم مُهرَهُ أو فُلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ.. حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد!!"..
خامسًا: "أنفق بلال..!"
ينظر الإنسان إلى المال باعتباره وسيلة لقضاء الحوائج وتيسير صعاب الحياة؛ ومن ثَمَّ يتعلق به ويحبه؛ فهو لا يريد أن يأتي عليه يوم يحتاج لنفقة فلا يجدها.. إنه يريد أن يكفي نفسه ومن يعولهم..
والله تبارك وتعالى يعالج هذا الأمر في النفس عندما يعلِّمك أنه هو سبحانه من سيتولى الإنفاق عليك إذا أنفقت في سبيله!! فكيف تخشى وقد وعدك بحسن العِوض؟!!.. ألا تعرفه؟! إنه ملك السموات والأرض.. بيده خزائنهما..
أيهما أجدى عليك نفعًا: أن تباشر أنت شئون نفسك؟.. أم أن يتولى الله كل ذلك عنك – بقدرته وكرمه وسعة فضله - ؟؟!
انظر إلى قوله تعالى.. يطمئنك بالتعويض الرباني عمَّا أنفقت: "وما أنفقتم من شيء فهو يُخْلِفُهُ".. نعم, هو الذي يُخْلِفه.. وهو الواسع العليم!
بل تأمل هذا الحديث العجيب والتحفيز الرباني بالتعويض.. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال تعالى: "أنفق يا ابن آدم.. أُنْفِقْ عليك" سبحان الله! إذا أنفقت علي أهل فلسطين أو العراق أو غيرهما.. أنفق الله عليك.. أما ترضى أن ينفق الله عليك؟!
على هذا الفقه العميق ربَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ فطابت نفوسهم بالبذل في سبيل الله, وجادت أيديهم بالعطاء.. فقد وجد صلى الله عليه وسلم قدرًا من الطعام مدَّخرًا عند بلال رضي الله عنه فقال له (كما روى الطبراني في المعجم الكبير عن أبي هريرة): "أنفق بلال.. ولا تخش من ذي العرش إقلالاً..!"
سادسًا: مال لا ينقص!!
يقسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لن تُنقص من مالك.. بمعنى أنه لابد أن يتم التعويض في الدنيا قبل الآخرة.. إما بمال قادم, أو برفع أمر كنت ستنفق فيه مالك حتمًا.. والمسلمون لا يحتاجون لقسم رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى يصدقوه, ولكنه يقسم على أشياء قد يتسلل الشك فيها إلى قلوب البعض؛ وذلك تأكيدًا لها, وتحفيزًا لمن تزعزع قلبه واهتز يقينه..
روي الترمذي وقال: حديث حسن صحيح, وروى الإمام أحمد أيضًا عن أبي كبشة عمرو بن سعد الناري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة".. هذه أول الأشياء التي يُقسم الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم عليها في يقين.. ثم يقول: "ولا ظُلم عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده الله بها عزًا.. ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر". وكلها أمور تحتاج إلى كثير يقين, وإلى عظيم عقيدة.
تُرى.. أما زال في القلوب شك؟! أما زال بعضنا حريصا علي ماله؟؟ إن كان الأمر كذلك فإليك وسيلة سابعة من وسائل التحفيز الرباني.
سابعًا: القرض الحسن..
في موضوع الحث علي الإنفاق يستعمل القرآن ألفاظًا عجيبة لا يتخيلها الناس, ولا يتوقعونها.. انظر إلى كتاب ربك كيف يناديك وينادي غيرك متلطفا متحببًا: "من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا؟؟ فيضاعفه له أضعافًا كثيرة.. والله يقبض ويبسط, وإليه ترجعون" (سورة البقرة آية 245)..
سبحانك يا الله!! كم أنت كريم!!.. المال مالك, والعبيد عبيدك, ثم أنت سبحانك تستقرضنا من مالك؟! ثم إذا أقرضناك أموالنا ضاعفت لنا أضعافًا كثيرةً؟؟! سبحان الله!! إن إلهاً بهذه الصفات لجدير أن يُعبد, وأن يُحَبَّ, وأن يُعَظَّمَ, وأن يُبَجَّلَ,.. والآية فعلاً عجيبة, وسياقها مبهر.. وكما تعجَّبْنا منها فقد تعجب منها الصحابة, لكن انظر إلى التعجب الإيجابي.. روي الطبراني عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: إنه لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله, وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟! قال: نعم يا أبا الدحداح.. قال: أرني يدك يا رسول الله! قال عبد الله بن مسعود: فناوله يده.. قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي - أي حديقتي – وأرضي.. قال عبد الله بن مسعود: وحائطه فيه ستمائة نخلة, وأم الدحداح فيه وعيالها.. قال: فجاء أبو الدحداح فنادها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي؛ فإني قد أقرضته ربي عز وجل"!!..
عطاء في كرم, وقرار في حسم! لقد كان أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه معطاءً بشكل عجيب.. روى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "لما انصرف رسول الله صلي الله عليه وسلم من جنازة أبي الدحداح (رضي الله عنه) قال: كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح!!".. كم من فروع نخيل لأبي الدحداح( رضي الله عنه) في الجنة!!
يذكر الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم سبب ذلك فيقول: إن يتيمًا خاصم أبا لبابة (رضي الله عنه) في نخلة, فبكى الغلام, فقال النبي صلي الله عليه وسلم له: - أي لأبي لبابة - أعطه إياها ولك بها عذق في الجنة.. فقال: لا.. فسمع أبو الدحداح, فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له!! ثم قال: يا رسول الله, ألي بها عذق إن أعطيتها اليتيم؟؟ قال: نعم.. ثم قال: "كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح!".. ثم مرت الأيام وذهب أبو الدحداح, وذهب الغلام, وذهب الحائط, وذهبت النخلة, ولكن ماذا بقي؟ بقي عذق أبي الدحداح في الجنة.. "ما عندكم ينفد, وما عند الله باق".
فارق كبير جدًا بين رد فعل أبي الدحداح للآية الكريمة: "من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا" وبين رد فعل اليهود لما نزلت الآية نفسها.. قالت اليهود: يا محمد, افتقر ربك فسأل عباده القرض؟!!..
انظر إلي سوء الأدب, وفظاظة اللفظ, ووقاحة الفعل! فأنزل الله عز وجل: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء! سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق" (سورة آل عمران 181)
ولا يمكن لمثل تلك النفوس المريضة أن تبصر جلال الحكمة والكرم الإلهيين من وراء سؤال المؤمنين القرض الحسن.. فحقيقة الأمر أن الله قد رفع – كثيرًا - من شأن عباده يوم جعل إنفاقهم في سبيله قرضًا حسنًا يسألهم إياه.. مع أنه صاحب الفضل والعطاء أولاً وآخرًا.. ومع أنه الغني عن عباده, وهم جميعًا فقراء إليه.
إن الله تبارك وتعالى يعلم حرص النفس الإنسانية على المال, وحبها له؛ فيعطف – سبحانه – على هذه الغريزة في عباده.. مصوِّرًا إنفاقهم في سبيله بصورة القرض الحسن!!
ولا يملك المؤمن – إن فقه هذا المعنى – إلا أن يذوب حياءً من ربه, ويفيض عطاءً وإنفاقًا لماله في سبيل رضا مولاه!
لقد كان استشعار الصحابة رضوان الله عليهم بالغًا لهذا المعنى (معنى إقراض الله!)؛ فها هي آيات الكتاب الحكيم تواصل حثهم وتحفيزهم بمثل قوله تعالى: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات؟.."؛ فصاروا يوقنون بوقوع الصدقة في يد الله – سبحانه – قبل أن تقع في يد الفقير..
ثامنًا: بين وعد الفضل.. ووعد الفقر!!
جعل الله الإنفاق في سبيله اختبارًا حاسمًا تختار فيه بين وعد الله ووعد الشيطان.. يقول عز وجل: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء.. والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً, والله واسع عليم" (سورة البقرة آية 268)
انظر أيهما تُصَدِّق.. استقرضك الله مالاً لفلسطين.. فجاء الشيطان فقال: لا تنفق كثيرًا؛ حتى لا تفتقر.. مازلت تحتاج إلى كذا وكذا.. مازال هناك طعام وشراب.. مازال هناك بيت وسيارة.. مازال هناك سفر ومشاريع.. مازالت هناك زوجة وأولاد... ويعظِّم المسألة في ذهنك تمامًا حتى تثَّاقل إلى الأرض, وترضى بالحياة الدنيا من الآخرة, ثم من الناحية الأخرى.. فإن الله يعدك أن يُخْلِفَكَ خيرًا مما أنفقت في الدنيا وفي الآخرة.. ويبارك لك في مالك وأهلك.. ويضاعف لك أضعافًا كثيرة.. وفوق ذلك رحمة وتوبة ومغفرة.. وفوق ذلك جنة ونعيم..! عليك أن تعرض المقارنة على ذهنك بسرعة كسرعة أبي الدحداح؛ فستمر الأيام, وتذهب أنت, ويذهب المال, ويذهب أهل فلسطين.. ولا يبقى شيء إلا ما عند الله؛ فآثروا ما يبقى ويدوم على ما يفنى وينعدم.
تاسعًا: الترهيب من عدم الإنفاق:
وكما اهتم الإسلام بتحفيز النفس على البذل والتطهر من الشح.. فقد سلك في تربيتها جانبًا آخر هامًّا لا يمكن إغفاله؛ فأوضح أن الجهاد بالمال ليس بالأمر الاختياري أو الثانوي.. يستطيع الإنسان أن يتجاوزه أو يحيد عنه متى شاء.. وإنما هو سلوك إسلامي أصيل يبلغ درجة الفريضة والركن أحيانًا – كما في الزكاة -, ويظل فيما سوى الفريضة معلمًا مميزًا من معالم النفس المسلمة, ودعامة هامة لحياة وسلامة المجتمع المسلم.. فقد روى الطبراني عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم.. ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم.. ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا, ويعذبهم عذابًا أليمًا".. فلن ينجو الأغنياء بأموالهم طالما هناك فقراء يجوعون ويعرون..
وكذلك روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى, فمرَّ على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن؛ فإني أُرِيُتُكُنَّ أكثر أهل النار!!" فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟! قال: تُكْثِرْنَ اللعن, وتكفرن العشير"..
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحَتْ له صفائحُ من نار, فأُحْمِيَ عليها في نار جهنم, فيُكوَى بها جنبُهُ وجبينُهُ وظهرُه.. كلما بَرَدَتْ أُعيدَتْ له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, حتى يُقْضَى بين العباد فَيَرَى سبيلَهُ: إما إلى الجنة, وإما إلى النار..
قيل: يا رسول الله, فالإبل؟
قال: ولا صاحبَ إبل لا يؤدي منها حقها - ومن حقها: حلبُها يوم وِرْدِها - إلا إذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ (أي: جُعِلَتْ في أرض مستوية ملساء) أَوْفَرَ ما كانت؛ لا يَفْقِدُ منها فَصِيلاً واحدًا.. تَطَؤُهُ بأخفافها (أي: تدوسه)، وتعضه بأفواهها.. كلما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها.. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, حتى يُقضى بين العباد؛ فيرى سبيله: إما إلى الجنة, وإما إلى النار..
قيل: يا رسول الله, فالبقر والغنم؟
قال: ولا صاحبَ بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ, لا يفقد منها شيئًا.. ليس فيها عقصاء (ملتوية القرن), ولا جلحاء (ليس لهل قرن), ولا عضباء (مكسورة القرن).. تنطحه بقُرُونِهَا, وتطؤه بأظلافها, كلما مَرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها.. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقْضَى بين العباد؛ فيرى سبيلَهُ: إما إلى الجنة, وإما إلى النار..
قيل: يا رسول الله, فالخيل؟
قال: الخيل ثلاثة: هي لرجل وِزْرٌ, وهي لرجل سِتْرٌ, وهي لرجل أجر؛ فأما التي هي له وِزر فرجل ربطها رياءً وفَخْرًا ونِوَاءً (أي: عداءً) لأهل الإسلام؛ فهي له وزر.. وأما التي هي له سِتْرٌ فرجل رَبَطها في سبيل الله, ثم لم ينس حق الله في ظُهُورها ولا رقابها؛ فهي له سِتْر.. وأما التي هي له أَجْرٌ فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة, فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كُتب له عدد ما أكلت حسنات, وكُتب له عدد أرواثها وأبوالها (فضلاتها) حسنات, ولا تَقْطَعُ طِوَلَهَا (وهو الحبل الذي تُقاد منه), فاسْتَنَّتْ (جرت بقوة) شَرَفًا أو شَرَفَيْن (الشَّرَف: قرابة الميل) إلا كُتِبَ له عددُ آثارها وأرواثها حسنات, ولا مَرَّ بها صاحبها على نهر؛ فشربت منه, ولا يريد أن يَسْقِيَهَا.. إلا كتب الله تعالى له عدد ما شربت حسنات..
قيل: يا رسول الله, فالحُمُر؟ قال: ما أُنْزِلَ عليَّ في الحُمُر شيءٌ إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره, ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره"
بل انظر إلى هذا التحذير الرهيب في الحديث الذي رواه مسلم عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نفر من قريش, فمر أبو ذر وهو يقول: "بَشِّر الكانِزِين بِكَيٍّ في ظهورهم.. يخرج من جنوبهم, وبِكَيٍّ من قِبَلِ أقْفَائِهِم.. يخرُجُ من جِبَاهِهِم.. قال: ثم تَنَحَّى فَقَعَدَ.. قال: قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر.. قال: فقمت إليه, فقلت: ما شيء سمعتُك تقول قُبَيْل؟ (أي: قبيل قليل) قال: ما قُلْتُ إلا شيئًا قد سمعتُه من نبيهم صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خُذْهُ؛ فإن فيه اليوم معونة.. فإذا كان ثَمَنًا لدِينِك فَدَعْهُ".. بهذا المنظار – إذن - كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ينظرون إلى المال: إما أن يكون عونًا على الحياة ومطالبها، وإلا فهو في سبيل الله.. لأنه لو عُزِلَ عن المحتاجين إليه وقت حاجتهم, واكتنزه صاحبه دونهم, فالعاقبة وخيمة جدًّا كما رأينا.. نسأل الله السلامة من الشح وعواقبه..
وليس عقاب الشح خاصًا بصاحبه فقط.. بل إن شؤمه يعمُّ الأمة جميعًا!! ألم تَرَ إلى ذلك التحذير النبوي الذي يَذكر سوء الجزاء الذي ينتظر المجتمعات التي لا تؤدي حق الله في أموالها..
روى ابن ماجة والبزار والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر المهاجرين, خصال خمس إن ابتليتم بهنَّ ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهنَّ..." وذكر منها: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ مِنَ السماء, ولولا البهائم لم يُمطروا!!".. فقيمة المجتمع الذي يبخل أبناؤه بما في أيديهم, أقل من البهائم!! ولا يستحقون فضل الله لولا البهائم التي تحيا إلى جوارهم على فطرة الله لا تتعداها
عاشرًا: ليست النائحة كالثكلى!!
إخواني في الله.. حدثتكم عن تسع محفزات ربانية على الجهاد بأموالكم في سبيل الله..
ولكن.. خبرِّوني بالله عليكم, إذا لم توجد كل تلك المحفزات..
أفلا يكفيكم حال إخوانكم في فلسطين؟!
ألا يؤرقكم عراء أجسادهم وخواء بطونهم؟؟!
ألا تهتز نفوسكم لأسر فقدت عائلها.. وشباب فقدوا بعض أطرافهم؟!
أفلا تروعكم بيوت هدِّمت, وشُرِّد ساكنوها؟؟!.. ومزارع خُرِّبت, وضاق الحال بمزارعيها؟؟!
إخواني في الله..
نحن لا نتحدَّث عن باب نظري من أبواب الشرع؛ نكتفي فيه بالمعلومات الجافة والمتون المحفوظة.. بل نحن نلمس واقعًا مريرًا، يكتوي به إخواننا في فلسطين – وفي غير فلسطين – صباح مساء..
أنا لا أدعوكم لإنقاذ قوم بائسين في طرف بعيد من العالم لا صلة لكم بهم.. بل أنتم تُدعون للجهاد بأموالكم دفاعًا عن أعراض إخوانكم في فلسطين – وفي سائر ديار الإسلام الجريحة - .. وواقعية المأساة وإلحاحها على مشاعرنا يوميَّا لا بد أن يكون حافزًا لسخاء الأيدي, ومن قبله سخاء القلوب.
وواقعية المأساة – بل المآسي – هي المحفز العاشر للجهاد بالمال.. فتلك عشرة كاملة.
كانت هذه بعض أساليب القرآن المعجزة في علاج شح الأنفس، والتحفيز على مسألة شاقة على النفس, وهي مسألة إخراج المال في سبيل الله , وأنا أعتقد أن الإنسان إذا علم كل ما سبق فقد ينقلب حبه للمال إلى كراهية, ولا يصبح المال حينئذٍ مدعاة للسرور.. كما روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أُحِبُّ أن لي مثل أُحُدٍ ذَهَبًا.. أنفقه كلَّه إلا ثلاثة دنانير"..
أي: لقضاء حوائجه, وأداء دَيْنِهِ, ونَفَقَةِ عياله.
وإنفاق المال بعد هذا التحفيز هو مرحلة من مراحل الإيمان, ودرجة من درجات الرقي إلى الله عز وجل.. وفوق هذه الدرجة درجات عليا.. يبلغها من ارتقى من مرحلة أن يُدعى إلى الإنفاق.. إلى مرحلة أن يرغب في الإنفاق ويبحث عن مواطنه, ويتمنى أن لو يُسِّرَ له سبيل يجود فيه بما في يديه؛ طمعًا في ما عند الله عز وجل.. وعن هذه الدرجة العليا تتحدث السطور القادمة.
من وحي "تبوك"..
تعالوا نغُص في أعماق التاريخ.. لنذهب إلى المعسكر الدائم للإيمان.. إلي المدينة المنورة.. ونصل إلى ساحة واسعة يجلس فيها خير الخلق محمد صلي الله عليه سلم.. وعن يمينه ويساره وأمامه جماعات من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.. يحفزهم صلى الله عليه وسلم على الإنفاق لتجهيز جيش عظيم في وقت عصيب اشتد فيه الحر, وعظم فيه الخطب, وطال فيه السفر, وقل فيه الزاد, وحان وقت القطاف.. لكن لابد من المغادرة.. هذا تجهيز جيش العسرة.. جيش تبوك.. ترى ماذا فعلوا حتى ينزل الله في حقهم: "لقد تاب الله علي النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة" (سورة التوبة آية 117)..
لكن قبل أن نرى فعلهم, ونستمتع بصحبتهم.. تعالوا نعقد مقارنة عجيبة وقياساً غريباً بين تبوك وفلسطين!!.. وتخيلوا معي بهدوء.. لو كان رسول الله صلي الله عليه وسلم حيًا بين أظهرنا, ورأى - في وقت متزامن - أمر فلسطين على ما هي عليه الآن, وأمر تبوك على ما كانت عليه.. وطاقة رسول الله صلى الله عليه سلم لا تكفي إلا لإخراج جيش واحد.. ترى ماذا سيكون موقفه؟ أتراه يختار تبوكًا.. أم تراه يختار فلسطين؟؟.. أتراه يحفز الناس على تبوك..أم تراه يحفزهم على فلسطين؟؟
1- غزوة تبوك كانت لمقتل رسولين من المسلمين في أرض الشام, كانا في طريقهما إلى قيصر، (رجلين فقط!).. أما فلسطين فقد قُتِل فيها في سنة واحدة: ثمانمائة من المسلمين!!..
2- في تبوك.. كان الجيش الروماني يتجهز لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يدخل الجزيرة العربية بعد.. بل كان في أرض الشام, ولم تكن أرضًا إسلامية آنذاك.. أما فلسطين فيعيث فيها الجيش اليهودي القذر فسادًا.. الجيش اليهودي بالفعل في أرض إسلامية.. لا يحتل فقط بل يستبدل بأهل فلسطين أهله وأبناءه من بني إسرائيل!..
3- في تبوك.. لم يُخرَج مسلم من داره.. أما في فلسطين فقد أُخرِجَ نصف أهل البلد من ديارهم!! وربنا يأمرنا.. وعلينا الطاعة، فيقول: "وأخرجوهم من حيث أخرجوكم".
4- تبوك كانت تهديدًا، ولم يحدث بعدُ قتال.. أما فلسطين فتعاني من حرب ضارية قائمة بالفعل.. وربنا يأمرنا.. وعلينا الطاعة,