[b]نصرة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أحمعين.
أما بعد:
فإن من أعظم ما يفتخر به المسلم إيمانه ومحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومع أن المسلم يؤمن بالأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام, ولا يفرق بين أحد منهم إلا أنه يعتبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتمهم, وأفضلهم, وسيدهم. وهو الذي يفتح به باب الجنة, وهو الطريق إلى هذه الأمة فلا يؤذن لأحد لدخول الجنة بعد بعثته إلا أن يكون من المؤمنين به عليه الصلاة والسلام.
{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة:128]
ومما زادني شرفاً وتيها *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّرت أحمد لي نبيا
أيها المسلمون..
تُرى ماذا نقول أمام ما نشرته صحيفة ( جلاندز بوستن ) الدنمركية يوم الثلاثاء 26/8/1426هـ، (12) رسماً كاريكاتيرياً ساخراً.. بمن يا ترى؟! بأعظم رجل وطأت قدماه الثرى, بإمام النبيين وقائد الغرّ المحجلين، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. صور آثمةٌ وقحةٌ وقاحة الكفر وأهله, أظهروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى هذه الرسومات عليه عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه!! وكأنهم يريدون أن يقولوا إنه - مجرم حرب - { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } [الأنعام:31].
ثم في هذه الأيام وفي يوم عيد الأضحى بالتحديد -إمعاناً في العداء- تأتي جريدة ( ما جزينت ) النرويجية لتنكأ الجراح وتشنّ الغارة من جديد, فتعيد نشر الرسوم ألوقحة التي نُشرت في المجلة الدنمركية قبل! { أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات:53]، مجاوزة الحد في الكفر.
بالله! ماذا يبقى في الحياة من لذة يوم ينال من مقام محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم لا ينتصر له ولا يذاد عن حياضه؟! ماذا نقول تجاه هذا العداء السافر, والتهكّم المكشوف؟ هل نغمض أعيننا, ونصم آذاننا, ونطبق أفواهنا، وفي القلب عرق ينبض؟؟ والذي كرّم محمداً وأعلى مكانته، لبطن الأرض أحبّ إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحق وندافع عن رسول الحق. ألا جفت أقلام وشُلت سواعد امتنعت عن تسطير أحرفٍ تذود بها عن حوضه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتدافع عن حرمته.
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم فداء
مكانة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أي عبارة تحيط ببعض نواحي تلك العظمة النبوية، وأي كلمة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل قطر، وأحاطت بكل عصر، وكُتب لها الخلود أبد الدهر، وأي خطبة تكشف لك عن أسرارها وإن كُتب بحروف من النور، وكان مداده أشعة الشمس.
إنها العظمة الماثلة في كل قلب، المستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعترف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب المنائر.
ألم تر أن الله خلَّد ذكره *** إذ قال في الخمس المؤذن: أشهد
وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
إنه النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث الكمال الخُلقي بالذروة التي لا تُنال، والسمو الذي لا يُسامى، أوفر الناس عقلاً، وأسداهم رأيًا، وأصحهم فكرةً، أسخى القوم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا أجود بالخير من الريح المرسلة، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يبيت على الطوى وقد وُهب المئين، وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئًا وينادي صاحبه: « أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً ».
أرحب الناس صدرًا، وأوسعهم حلمًا، يحلم على من جهل عليه، ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذًا بالعفو وأمرًا بالمعروف، يمسك بغرة النصر وينادي أسراه في كرم وإباء: « اذهبوا فأنتم الطلقاء ».
أعظم الناس تواضعًا، يُخالط الفقير والمسكين، ويُجالس الشيخ والأرملة، وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضي حاجتها، ولا يتميز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة ولا برسم من رسوم الظهور.
ألين الناس عريكةً وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مُحرمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من شدة الغضب.
أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادةً، يتلقى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار ويُنادي بأعلى صوته: « أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ».
وهو من شجاعة القلب بالمنزلة التي تجعل أصحابه إذا اشتد البأس يتّقون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قوة الإرادة بالمنزلة التي لا ينثني معها عن واجب، ولا يلين في حق، ولا يتردد ولا يضعف أمام شدة.
أعف الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدر مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة.
أعدلهم في الحكومة وأعظمهم إنصافًا في الخصومة يَقِيدُ من نفسه ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: « لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ».
أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة وقيامًا بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حقه، ولصاحبه حقه، ولزوجه حقها، ولدعوته حقها، أزهد الناس في المادة وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يقدم إليه فلا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقوداً، ينام على الحصير والأدم المحشو بالليف.
قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة، قد تزوجت من قبله وقضت زهرة شبابها مع غيره، ولم يتزوج معها أحدًا وما تزوج بعدها لمتعة، وما كان في أزواجه الطاهرات بكرًا غير عائشة التي أعرس بها وسنها تسع سنين، يسرب إليها الولائد يلعبن معها بالدمي وعرائس القطن والنسيج.
أرفق الناس بالضعفاء وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان، ويحذر أصحابه، فيقول لهم: « إن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ».
لو لم يكن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض، وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم، لكان فضلاً لا يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يُوفى الناس حامله بعض جزائه.
ذلك قبس من نور النبوة، وشعاع من مشكاة الخلق المحمدي الطاهر، وإن في القول بعد لسعة وفي المقام تفصيلاً.
وسل التاريخ ينبئك هل مر به عظيم أعظم من النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد عُصم من النقائص، وعلا عن الهفوات، وجلّ مقامه عن أن تلصق به هفوة.
خُلقتَ مُبرءًا من كل عيب *** كأنك قد خُلقت كما تشاء
من أقوال الغربيين في النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إن المنصفين من المشاهير المعاصرين عندما اطّلعوا على سيرة رسول الله محمد لم يملكوا إلا الاعتراف له بالفضل والنبل والسيادة، وهذا طرفٌ من أقوال بعضهم:
1- يقول مايكل هارت في كتابه "الخالدون مئة" ص13، وقد جعل على رأس المئة سيدَنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يقول:
"لقد اخترت محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول هذه القائمة... لأن محمدا عليه السلام هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي, وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وبعد 13 سنة من وفاته، فإن أثر محمد عليه السلام ما يزال قوياً متجدداً".
وقال ص 18: "ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قوة جبارة لا يستهان بها فيمكن أن يقال أيضاً إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ"
2- برناردشو الإنكليزي, له مؤلف أسماه (محمد)، وقد أحرقته السلطة البريطانية، يقول: "إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، وإنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".
3- ويقول آن بيزيت: "من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم ويعرف كيف عاش هذا النبي وكيف علم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء...
هل تقصد أن تخبرني أن رجلاً في عنفوان شبابه لم يتعد الرابعة والعشرين من عمره بعد أن تزوج من امرأة أكبر منه بكثير وظل وفياً لها طيلة 26 عاماً ثم عندما بلغ الخمسين من عمره -السن التي تخبو فيها شهوات الجسد- تزوج لإشباع رغباته وشهواته؟! ليس هكذا يكون الحكم على حياة الأشخاص".
4- تولستوي (الأديب العالمي): "يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة".
5- شبرك النمساوي: "إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته".
6- الدكتور زويمر الكندي، مستشرق كندي: "إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً، وبليغاً فصيحاً، وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء".
7- الفيلسوف إدوار مونته الفرنسي: "عُرِف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق".
8- الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه الأبطال: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمداً خدّاع مزوِّر.
وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم بعيداً، كريماً بَرًّا، رؤوفاً تقياً، فاضلاً حراً، رجلاً شديد الجد، مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب، ليِّن العريكة، جمّ البِشْرِ والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب.
كان عادلاً، صادق النية ذكي اللب، شهم الفؤاد، لوذعياً، كأنما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم، ممتلئاً نوراً، رجلاً عظيماً بفطرته، لم تثقفه مدرسة، ولا هذبه معلم، وهو غني عن ذلك"
و بعد أن أفاض كارليل في إنصاف النبي محمد ختم حديثه بهذه الكلمات: "هكذا تكون العظمة، هكذا تكون البطولة، هكذا تكون العبقرية".
9- ويقول جوتة الأديب الألماني: "إننا أهل أوربة بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد... وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد".
10- وقال شاتليه الفرنسي: "إن رسالة محمد هي أفضل الرسالات التي جاء بها الأنبياء قبله".
11- يقول وليم المؤرخ الإنجليزي الكبير في كتابه (حياة محمد): "لقد امتاز محمد عليه السلام بوضوح كلامه، ويسر دينه، وقد أتمّ في الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل نبي الإسلام محمد".
12- قالت الدكتورة زيجرد هونكة الألمانية: "أن محمد والإسلام شمس الله على الغرب. فإن كان ذلك كذلك فإن من واجب العالم كله -ولا محيص لهم عن ذلك- أن يجعل عظمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخلق جميعًا فوق كل عظمة، وفضله فوق كل فضل، وتقديره أكبر من كل تقدير، ولو لم يكن له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مؤيدات نبوته وأدلة رسالته إلا سيرته المطهرة وتشريعه الخالد لكانا كافيين، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".
صدق نبوة النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
من كلام شيخ الإسلام:
"ومعلوم أن مدعى الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم ، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام والله لا أقول لك كلمة واحدة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أرد عليك ، فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم".
وما أحسن قول حسان رضي الله عنه:
لَو لَم تَكُن فيهِ آياتٌ مُبَيَّنَةٌ *** كانَت بَديهَتُهُ تُنبيكَ بِالخَبَرِ
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور، واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز.
وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور، ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أموراً.
والكذاب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة. والصادق يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه ويفعله ما يظهر به صدقه من وجوه كثيرة.
ولهذا قال تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [الشعراء:220-223].
والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب، ولهذا لما أنزل الوحي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول مرة، ونزلت عليه الآيات من أول سورة العلق، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ « زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي »، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ!!
قَالَ لِخَدِيجَةَ: « أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي »، فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، فقال وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى!!
فاشتملت هذه الواقعة على نوعين من طرق الاستدلال على صحة نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظيم قدره عند ربه، وأنه ليس ممن يخزيه الله تعالى:
النوع الأول: الاستدلال بأحواله وأخلاقه وأعماله، وبهذا استدلت خديجة رضي الله عنها. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الصدق من نفسه أكثر مما يعلمه غيره منه، وإنما خاف في أول الأمر أن يكون قد عرض له عارض سوء، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال، وهو الصدق المستلزم للعدل، والإحسان إلى الخلق، ومن جمع فيه الصدق والعدل والإحسان لم يكن مما يخزيه الله، وصلة الرحم وقري الضيف وحمل الكل وإعطاء المعدوم، والإعانة على نوائب الحق هي من أعظم أنواع البر والإحسان، وقد علم من سنة الله أن من جبله الله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه.
وبهذه الطريقة -أيضاً استدل هرقل ملك الروم، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى غزة، فطلبهم وسألهم عن أحوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطلب هرقل أبا سفيان، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ..
ثم سأله: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ فقال: قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، إلى آخر الأسئلة التي سأل أبا سفيان عنها. ثم قال هرقل لترجمانه، بعد انتهاء ما عنده من الأسئلة، وسماع جواب أبي سفيان عنها:
قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا ؛ فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ.
وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.
وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لا ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ.
وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّاً فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ!!
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أن المتنبىء الكذّاب لا يدوم إلا مدة يسيرة، وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يقال إنهم من ولد قيصر هذا أو غيرهم، حيث رأى رجلاً يسبّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رؤس النصارى ويرميه بالكذب، فجمع علماء النصارى وسألهم عن المتنبىء الكذّاب: كم تبقى نبوته؟ فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء أن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة، لمدة قريبة إما ثلاثين سنة أو نحوها!! فقال لهم: هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة، أو ستمائة سنة [ يعني: في أيام هذا الملك]، وهو ظاهر مقبول متبوع، فكيف يكون هذا كذاباً؟؟ ثم ضَرَب عنق ذلك الرجل!!
والنوع الثاني: الاستدلال بالنظر في رسالته وما جاء به، ومقارنتها بما جاء به الرسل من قبله: وبهذا استدل ورقة بن نوفل على صحة نبوّته لما سمع ما جاء به؛ فالنبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام.
وقد علم ما كانت عليه الرسل من الأقوال والأحوال على وجه العموم؛ فالمدعي للرسالة إذا أتى بما يظهر به مخالفته للرسل علم أنه ليس منهم، وإذا أتى بما هو من خصائص الرسل علم أنه منهم، لا سيما إذا علم أنه لا بد من رسول منتظر.
ولهذا قال الله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة:146-147].
وبهذه الطريقة أيضاً استدلّ النجاشي على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمن به بعد ذلك، فإنه لما سألهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرؤه عليه ، قال: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة).
[انظر: شرح العقيدة الأصفهانية، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله].
**الدفاع عن النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إن من واجب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا أن نحبه ونجله ونبجله ونعظمه ونتبع سنته في الظاهر والباطن, وأن نذب عنه كيد الكائدين ومكر الماكرين.
وفي هذا العصر المليء بالفتن والشرور على الأمة الإسلامية، فإننا نجد حملة ضارية سيئة من عدد من الرهبان والقسس وضعاف النفوس وضعاف العقول على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام.
فيا لله! كيف تنبري فرقة أومنظمة أوأفراد بالقدح أو الحط من قدر هذا النبي الخالد؟؟
كذبتم وايم الله يبزى محمد *** ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل
إن الهجوم الإعلامي على الإسلام ذو جذور قديمة قدم الإسلام، وهو أحد الأساليب التي اتخذها الكفار للصد عن سبيل الله تعالى، بدأ من كفار قريش وحتى عصرنا الحاضر، وهذا الهجوم له ألوان كثيرة ولكنها في أغلبها كانت محصورة في نطاق الشبهات والمغالطات والطعون. لكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، انتقل الهجوم إلى لون جديد قذر لم يُعهد من قبل وهو التعرض لشخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنيل من عرضه وذاته الكريمة، وقد اتسم هذا الهجوم بالبذاءة والسخرية والاستهزاء، مما يدل دلالة واضحة أن هذا التهجم له منظمات وله استراتيجيات خاصة، تتركز على استخدام وسائل الإعلام بل ويقومون به أناس متخصصون مدعومون من بعض قساوسة النصارى لا كلهم.
قال جيري فالويل: أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً، في اعتقادي.. المسيح وضع مثالاً للحب، كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمداً وضع مثالاً عكسياً، إنه كان لصاً وقاطع طريق.
وقال بات روبرتسون: كان مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثاً من الجنون.
وقال جيري فاينز: شاذ يميل للأطفال، ويتملّكه الشيطان.
وقال جيمي سوجارت: إنه شاذ جنسياً، ضال انحرف عن طريق الصواب.
هذا غير تصويره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صراحة في الرسوم الكاريكاتورية في مواقف ساخرة وضيعة.
وهكذا انتقل الهجوم على الإسلام من طرح الشبهات إلى إلقاء القاذورات، ولم يجد المهاجمون في الإسلام ولا في شخص خاتم الأنبياء ما يرضي رغبتهم في التشويه، ووجدوا أن الشبهات والطعن الفكري من الأمور التي يسهل تفنيدها وكشف زيفها أمام قوة الحق في الإسلام، فلجؤوا إلى التشويه الإعلامي، وخاصة أنهم يملكون نواصيه في الغرب.
هذه القضية تثير غيرة كل مسلم، وتدفعه إلى التساؤل عن أسباب هذه الهجمة، والأغراض الكامنة وراءها، ومدى تأثيرها.
**العوامل الدافعة للنيل من شخصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
1- سرعة انتشار الإسلام، والتي تثير غيرة كل المعادين للدين، سواء أكانوا من النصارى أو اليهود، أو من العلمانيين والملحدين.
2- حسد القيادات وخصوصاً الدينية، فإن كثيراً من هؤلاء يغيظهم شخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل حتى المنافقين في العالم الإسلامي، لما يرون من لمعان اسم النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل الأرجاء وكثرة أتباعه وتوقير المسلمين الشديد لنبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا ما يثير حسدهم.
3- عامل الخوف، ليس الخوف من انتشار الإسلام في الغرب فحسب بل الخوف من عودة المسلمين في العالم الإسلامي إلى التمسك بدينهم، وهم الآن يستغلون ضعف المسلمين في كثير من الجوانب، مثل الجانب الاقتصادي والإعلامي، ويريدون أن يطفئوا هذا النور قبل أن ينتشر في العالم.
**حكم من سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أجمع العلماء على أن من سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين فهو كافر مرتد يجب قتله.
وهذا الإجماع قد حكاه غير واحد من أهل العلم كالإمام إسحاق بن راهويه وابن المنذر والقاضي عياض والخطابي وغيرهم. (الصارم المسلول 2/13-16).
وقد دل على هذا الحكم الكتاب والسنة:
أما الكتاب؛ فقول الله تعالى: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ . وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ . لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة:66].
فهذه الآية نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسب بطريق الأولى، وقد دلت الآية أيضاً على أن من تنقص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كفر، جاداً أو هازلاً.
وأما السنة؛ فروى أبو داود (4362) « عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا ».
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (2/126): وهذا الحديث جيد، وله شاهد من حديث ابن عباس وسيأتي. اهـ.
وهذا الحديث نص في جواز قتلها لأجل شتم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى أبو داود (4361): « عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ [سيف قصير] فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلا قَامَ. فَقَامَ الأَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ ». صححه الألباني في صحيح أبي داود(3655).
والظاهر من هذه المرأة أنها كانت كافرة ولم تكن مسلمة ، فإن المسلمة لا يمكن أن تقدم على هذا الأمر الشنيع . ولأنها لو كانت مسلمة لكانت مرتدةً بذلك ، وحينئذٍ لا يجوز لسيدها أن يمسكها ويكتفي بمجرد نهيها عن ذلك .
وروى النسائي (4071) عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، فَقُلْتُ : أَقْتُلُهُ ؟ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ : لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . صحيح النسائي (3795).
فعُلِم من هذا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له أن يقتل من سبه ومن أغلظ له ، وهو بعمومه يشمل المسلم والكافر.
إذا تاب من سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهل تقبل توبته أم لا؟
اتفق العلماء على أنه إذا تاب توبة نصوحاً وندم على ما فعل، أن هذه التوبة تنفعه يوم القيامة، فيغفر الله تعالى له.
واختلفوا في قبول توبته في الدنيا ، وسقوط القتل عنه، فذهب مالك وأحمد إلى أنها لا تقبل، فيقتل ولو تاب.
واستدلوا على ذلك بالسنة والنظر الصحيح:
أما السنة فروى أبو داود (2683) عَنْ سَعْدٍ بن أبي وقاص قَالَ: « لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَسَمَّاهُمْ وَابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ: وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (يفطن لصواب الحكم) يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، أَلا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ ». صححه الألباني في صحيح أبي داود (2334).
وهذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته، بل يجوز قتله وإن جاء تائباً.
وكان عبد الله بن سعد من كتبة الوحي، فارتد وزعم أنه يزيد في الوحي ما يشاء، وهذا كذب وافتراء على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من أنواع السب، ثم أسلم وحسن إسلامه، فرضي الله عنه. (الصارم 115).
ذكر العظيم آبادي في شرح الحديث:
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى الرَّشِيد هَهُنَا الْفِطْنَة لِصَوَابِ الْحُكْم فِي قَتْله اِنْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ التَّوْبَة عَنْ الْكُفْر فِي حَيَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَوْقُوفَة عَلَى رِضَاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَنَّ الَّذِي اِرْتَدَّ وَآذَاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آمَنَ سَقَطَ قَتْله قَالَهُ السِّنْدِيُّ. اهـ من عون المعبود.
وأما النظر الصحيح:
فقالوا: إن سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعلق به حقّان؛ حق لله، وحق لآدمي. فأما حق الله فظاهر، وهو القدح في رسالته وكتابه ودينه. وأما حق الآدمي فظاهر أيضاً؛ فإنه أدخل المَعَرَّة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا السبّ، وأناله بذلك غضاضة وعاراً. والعقوبة إذا تعلق بها حق الله وحق الآدمي لم تسقط بالتوبة، كعقوبة قاطع الطريق، فإنه إذا قَتَل تحتم قتله وصلبه، ثم لو تاب قبل القدرة عليه، سقط حق الله من تحتم القتل والصلب، ولم يسقط حق الآدمي من القصاص، فكذلك هنا إذا تاب الساب فقد سقط بتوبته حق الله تعالى، وبقي حق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسقط بالتوبة.
فإن قيل: ألا يمكن أن نعفو عنه، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عفا في حياته عن كثير ممن سبّوه ولم يقتلهم؟
فالجواب:
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تارة يختار العفو عمن سبّه، وربما أمر بقتله إذا رأى المصلحة في ذلك، والآن قد تَعَذَّر عفوُه بموته، فبقي قتل السابّ حقاًّ محضاً لله ولرسوله وللمؤمنين لم يعف عنه مستحقه، فيجب إقامته. (الصارم المسلول 2/438).
وخلاصة القول:
أن سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أعظم المحرمات، وهو كفر وردة عن الإسلام بإجماع العلماء، سواء فعل ذلك جاداًّ أم هازلاً. وأن فاعله يقتل ولو تاب، مسلماً كان أم كافراً. ثم إن كان قد تاب توبة نصوحاً، وندم على ما فعل، فإن هذه التوبة تنفعه يوم القيامة، فيغفر الله له.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاب نفيس في هذه المسألة وهو (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، ينبغي لكل مؤمن قراءته، لاسيما في هذه الأزمان التي تجرأ فيها كثير من المنافقين والملحدين على سبّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما رأوا تهاون المسلمين، وقلة غيرتهم على دينهم ونبيهم، وعدم تطبيق العقوبة الشرعية التي تردع هؤلاء وأمثالهم عن ارتكاب هذا الكفر الصراح.
نسأل الله تعالى أن يعز أهل طاعته، ويذل أهل معصيته.
**عاقبة من سب رسول الله في الدنيا:
إن الله عز وجل يغار على دينه, ويغار على نبيه, ومن غيرته تعالى أنه ينتقم ممن آذى رسوله, لأن من آذى رسوله فقد آذى الله, قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا } [الأحزاب:57].
والله تعالى قد تولى الدفاع عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } [الحج:38], وأعلن عصمته له من الناس { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة:67]، وأخبر أنه سيكفيه المستهزئين { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } [الحجر:95]، سواء كانوا من قريش أو من غيرهم.
قال الشنقيطي رحمه الله: وذكر – الله – في مواضع أخرى أنه كفاه غيرهم كقوله في أهل الكتاب { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ } [البقرة:137] وقال { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر:36]. وقال ابن سعدي رحمه الله: "وقد فعل تعالى, فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة. أهـ.
أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردويه بسند حسن والضياء في المختارة, عن ابن عباس في قوله { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ }، قال: المستهزئون, الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عبطل السهمي والعاص بن وائل, فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أرني إياهم, فأراه كل واحد منهم, وجبريل يشير إلى كل واحد منهم في موضع من جسده ويقول: كَفَيْـتُكَهُ, والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما صنعت شيئاً!
فأما الوليد, فمرّ برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها. وأما الأسود بن المطلب, فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يابنيّ, ألا تدفعون عني؟ قد هلكت وطُعنت بالشوك في عينيّ فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عتمت عيناه. وأما الأسود بن عبد يغوث, فخرج في رأسه قروح فمات منها. وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه. وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته. (الدر المنثور 5/101).
**قصة الرجل الذي كان يكتب لرسول الله:
« عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: "مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلا مَا كَتَبْتُ لَهُ"، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ » رواه البخاري ومسلم.
**الصغيران اللذان قتلا أبا جهل الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإِذَا أَنَا بِغُلامَيْنِ مِنْ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَال:َ يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ. فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالا: لا. فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: كِلاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ » رواه البخاري.
كانوا يستبشرون بهزيمة من سب رسول الله:
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه، تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب -يعني المغرب- حالهم مع النصارى كذلك. أهـ (الصارم المسلول ص 116-117).
**استنصار بعض النصارى بكتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وبالمقابل فقد علم بعض ملوك النصارى أن إكرام كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقي فيه الملك ما شاء الله.
ذكر السهيليُ أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سِبطه، فحدثني بعضُ أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر، وسأل أن يمكِّنه من تقبيله فامتنع.
ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري، أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير، فقال: "هذا كتاب نبيّكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظّمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا" أهـ.
**قصة الشيخ محمد شاكر مع خطيب الجمعة الذي سبّ رسول الله:
ذكر الشيخ أحمد شاكر أن والده الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً كفّر أحد خطباء مصر، وكان فصيحاً متكلماً مقتدراً، وأراد هذا الخطيب أن يمدح أحد أمراء مصر عندما أكرم طه حسين، فقال في خطبته: "جاءه الأعمى فما عبس بوجهه وما تولى!" -وهو يريد بذلك التعريض برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , حيث أن القرآن ذكر قصته مع الأعمى فقال تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَن جَاءهُ الأَعْمَى } [عبس:1-2]-. فبعد الخطبة أعلن الشيخ محمد شاكر الناس: صلاتهم باطلة, وأمرهم أن يعيدوا صلاتهم لأن الخطيب كفر بهذه الكلمة التي تعتبر شتم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعريضاً لا تصريحاً.
هذا ولم يكن الشيخ محمد شاكر رحمه الله ممن يطلقون الأحكام جزافاً، ولم يكن يفعل ذلك لمطلب دنيوي أو لمرضاة ذي سلطان، إذ لم تكن حالة الأزهر في زمانه مثل ما هي عليه في زماننا هذا.
عاقبة هذا المجرم:
ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الآخرة.
قال الشيخ أحمد شاكر: (ولكن الله لم يدعْ لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسمُ بالله لقد رأيته -بعيني رأسي، بعد بضع سنين، وبعد أن كان عالياً منتفخاً، مستعزّاً بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء- رأيته مهيناً ذليلاً، خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه، فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتة فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة".
**قصة الذي أراد الشهادة العليا وسبّ رسول الله:
ذهب أحدهم لنيل شهادة عليا من خارج بلاده, فلما أتم دراسته وكانت تتعلق بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، طلب منه أستاذه من النصارى أن يسجل في رسالته ما فيه انتقاص للنبي صل الله عليه وسلم وتعريض به ثمناً لتلك الشهادة.
فتردد الرجل بين القبول والرفض ولكنه فضل اختيار الدنيا على الآخرة, وأجابهم إلى ما أرادوا طمعاً في نيل تلك الشهادة الملوثة، فلما عاد إلى بلده فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مفاجئ. ولعذاب الآخرة اشد وأبقى.
**واجبنا في نصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إن الله عز وجل يقول: { فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف:157] فواجب علينا أيها الأحبة أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
هناك وسائل فردية يستطيع الفرد القيام بتحقيقها في حياته العلمية والعملية، ومن أهم تلك الوسائل العامة التي نبين فيها بجلاء نصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يلي:
1- الاحتجاج على الصعيد الرسمي على اختلاف مستوياته، واستنكار هذا التهجّم بقوة، وإننا نعجب أن الشجب والاستنكار الذي نحن أهله دائماً لم يستعمل هذه المرة، ونعجب أخرى أن يستنكر هذه الإساءة وزير خارجية بريطانيا، سابقاً بذلك آخرين كانوا أحق بها وأهلها.
2- الاحتجاج على مستوى الهيئات الشرعية الرسمية، كوزارات الأوقاف، ودور الفتيا، والجامعات الإسلامية.
3- الاحتجاج على مستوى الهيئات والمنظمات الشعبية الإسلامية وهي كثيرة.
4- إعلان الاستنكار من الشخصيات العلمية والثقافية والفكرية والقيادات الشرعية، وإعلان هذا النكير من عتبات المنابر وأعلاها ذروة منبري الحرمين الشريفين.
5- المواجهة على مستوى المراكز الإسلامية الموجودة في الغرب بالرد على هذه الحملة واستنكارها.
6- المواجهة على المستوى الفردي، وذلك بإرسال الرسائل الإلكترونية المتضمنة الاحتجاج والرد والاستنكار إلى كل المنظمات والجامعات والأفراد المؤثرين في الغرب، ولو نفر المسلمون بإرسال ملايين الرسائل الرصينة القوية إلى المنظمات والأفراد فإن هذا سيكون له أثره اللافت قطعاً.
7- استئجار ساعات لبرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية تدافع عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتذبّ عن جنابه، ويستضاف فيها ذوو القدرة والرسوخ، والدراية بمخاطبة العقلية الغربية بإقناع، وهم بحمد الله كثر.
8- كتابة المقالات القوية الرصينة لتنشر في المجلات والصحف -ولو كمادّة إعلانية-، ونشرها على مواقع الإنترنت