ومنذ أن عمرت الأرض بآدم وبنيه إلى يومنا هذا ونحن نتعلم ونجرب، وحضارات تتلاشى وأخرى تظهر. وهذه هي الحال، فلكل مقام مقال، ولكل زمان دولة ورجال. ولم يتوصل الإنسان بعد لطريقة مثلى في التعليم والتربية لها أفضلية ويستشهد بها دون سواها. فما زال يجرب ويجرب ويخطط ويمحو ما قبله من خطط، ويطور دولة ويهدم أخرى إلى ما شاء الله. فكل التربية فرضيات وآراء وفلسفات وتجارب مختصين وأفكار علماء. فلا معيار أو سلم تقويم أو إجابة نموذجية يقوَّم بها أداء المعلمين، أو تؤكد طرائق وتنفي أخرى، فكلها نسبية تجريبية ومعرفة تراكمية. وكثير مما يدرس حتى الآن نظريات منها ما له برهان ومنها من ينتظر، ومنها ما افترضنا صحته ووصفناه بالبديهيات، وهي ما لم نجد لها بديلاً أو نظيراً أو ما يخالفها. ومن الفروض ما لها التطبيقات التي جعلتنا نؤمن بصحتها، دون الحاجة إلى البرهان، وبقيت نتائج تجارب أو مشاهدات. ونتطور معتمدين على ما سبق ونبني عليه، وما كان ليس خطأ، وليس الصحيح المطلق هو ما نحن عليه. وعليه لابد في المقام الأول من جدية التعليم، وعدم المحاباة فيه، والصدق في التقويم. إذ ليس لعدنان أكثر من سلطان إلا بالجد والاجتهاد. والاختبار الصادق الهادف هو المقياس والأمان، مع عدم إمكان توفر هذا 100% والعلم ليس المعرفة بالشيء معرفة نظرية، بل انعكاس على حياة الإنسان. ويظهر أثره على شكل تصرفات وسلوك وآلات وتطور وحداثة واستثمار للمعارف والأفكار، وتفهم للحاضر والمستقبل، وسعي نحو الأفضل، من أجل البناء والتكميل، وتوريث الأجيال جيلاً بعد جيل إيماناً وقوة وأخلاقاً وعزة وريادة. ويجتمع له وعليه ذوو العقل للنقاش لا للخلاف، ولتبادل وجهات النظر، ويتمتعون بلذة ما توصلوا إليه لأنه الطريق إلى الله عز وجل دنيا وآخرة. ولكن العلم يؤتى ولا يأتي، فهو بحاجة إلى عزم وصبر وإرادة وقوة وحزم وتبصر وتفكير. ويلزم لذلك تعلم طريق التفكير بالسؤال عن حال الشيء ومسبباته، وما كان عليه وما سيكون، والتفكير في خلق الله عز وجل وبالملاحظة والمشاهدة والاستقراء، وتوقع الاحتمالات والبحث عنها نظرياً وتجريبياً، وتأكيد النتائج بالطرائق العلمية مشاهدة وتجربة وإحصاء. ولكن يبقى الهدف الأسمى وهو استخدام الحقيقة المستخلصة واستثمارها في مجالات الحياة المختلفة.
ولكي يبدأ الإنسان الطريق، فلابد من التعلم في المجتمع والمدرسة على أيدي معلمين أكفاء، وذوي خبرة ودراية، ومعرفة تربوية تتصل بالواقع وتمتزج بالخيال، وملأى بالطموحات والآمال، وأن يكون التعليم مبنياً على الحماس وحب الاستطلاع والرغبة في البحث والأمانة والبعد عن الادعاءات والخرافات، والإيمان المطلق بالعلم كوسيلة لحل المشكلات، واحترام آراء الآخرين، والبعد عن التعصب والمغالاة، وهذه ميزات الجندي المجهول - المعلم - الذي يحترق ليضيء للآخرين دربهم، وهو يعتقد أن الطالب أمانة يسأل عنها كما يسأل عن علمه فيما فعل فيه. وهو ركيزة هامة لا يتم التعلم إلا بها. وحتى يحتمل أكثر ويقوم بعمل أفضل لا بد من الاهتمام به وتنمية قدراته ومهاراته بالندوات والمؤتمرات والدورات التدريبية، والانتماء إلى المؤسسات التعليمية كما يحتاج إلى الحوافز المادية والمعنوية.
وللتعليم ركائز لا تقل أهمية عن دور المعلم من حماس الطالب نفسه، وتفهمه لقدراته ومهاراته وواجباته، والنظر إلى المستقبل، وتوجيهه الوجهة الصحيحة، والشعور بالمسؤولية. ويلزم الطالب جواً نقياً يتقبل العلم ويدعو إليه، ويساعده إلى وصول كل ما يصبو إليه بتوفير كل الإمكانات المادية والنفسية والاجتماعية له، ومراعاة جميع مراحل تطوره، ومع متابعة تقصيره وتداركه حالاً ولا يترك ليتراكم فيصعب إصلاح الحال. كما يتطلب التعليم وجود النظام المتزن الهادئ الذي يتناسب مع ظروف العصر وتطوره، ومحاكاة جميع القدرات، والتمييز بينها بالتشجيع والترغيب لا باللوم والتقريع. ومع تعليم الطالب طرائق الاعتماد على الذات، واستخلاص المعلومات من الكتب والمراجع، والاستزادة منها، وتفهمه أهمية المطالعة والكتابة، ومناقشة ما بين يديه دون خوف أو وجل. ثم بهدوء وطمأنينة يصل إلى استعمال صحيح لكتب المقررات التي يجب أن يتوفر فيها كل ما يصل بالطالب إلى الأهداف المرجوة تربية وتعليماً.
وما مجانية التعليم إلا ضرورة وفرها المخلصون الصادقون من أهل القرار، وليس لنا إلا العرفان للذي يقي أبناءنا شر الجهل والفقر والضياع. ولا علاقة هنا بمن يقدر العلم ومن لا يقدره وبمن يقدر ومن لا يقدر، فالعلم فريضة على كل مسلم كان غنياً أو فقيراً. فالجاهل عليه أن يتعلم والعالم عليه أن يزيد. ولكلٍّ الحق في التعليم حباً للوطن وحباً في التنمية، وليتسنى لهذا وذاك على السواء بناء أبنائه بنية سليمة، ولأن يكون على وعي كاف، ويقدر على متابعة أبنائه حتى لا نعود إلى عصر الأمية والعياذ بالله منها. وما تكدس الفصول إلا بسبب الجهل وعدم تنظيم الناس أمورهم. فلنتكاثر ولنباه الأمم بالجيل المتعلم الواعي، ولنقد الأمم علمياً كما قادهم أسلافنا.
أما أساس العجز في عدد المعلمين هو قلة من تعلم وواصل وجد وثابر وخطط مستقبله ليكون معلماً. وهذا لما يلاقي المعلم من قلة التقدير والاحترام، وتخلف الإعداد المعرفي والنفسي له. فلابد من انتقاء المعلمين الأكثر علماً وخبرة، ولا يتأتى هذا إلا بالنظر للشهادات الدالة على القدرة والندرة والكفاءة. ولابد من متابعة المشرفين والمختصين للمعلمين متابعة مستمرة واثقة، وعلى إثرها وبعد الدورات التدريبية الكافية والإرشادات الهادفة يقرر ذوو القرار مصير المعلم سلباً أو إيجاباً.
وما الدروس الخصوصية إلا ظاهرة عالمية وفي كل المراحل والموضوعات، وليس فيها عيب أو ظلم أو استغلال إذا بني الفرد والمجتمع في ظل العدالة، وعوقب كل من لا يقوم بعمله على أكمل وجه عقاباً شديداً ما دام قد قبل بهذا العمل، فلا يربط دخله بعطائه، فدخله محدود، وعطاؤه ليس له حدود، ولكل حاجة إن حرم الطريق إليها حرمت.
أما الأيدي العاملة التي نحن بحاجة إليها هي الأيدي المتعلمة المؤهلة المدربة الواعية المؤمنة المخلصة المتفهمة لمصلحة الأمة والوطن. فهؤلاء من المجتمع وأولياء أمور وبناة جيل. وأبناؤهم ليسوا بالضرورة مثلهم ويمتهنون مهنهم، فيمكن لابن المزارع أن يكون معلماً ولابن المعلم أن يكون مزارعاً، فلنتكافل وليكمل كل منا الآخر، وليعد الآباء حتى يعدوا الأبناء.
أما المدارس الخاصة، فلابد من التنافس الشريف بينها ليس على حساب مصلحة الطالب بالنجاح دون استحقاق، وبما أن المنهاج واحد في دولة واحدة وتخضع لنظام واحد، فلا بد من إخضاع هذه المدارس للرقابة والمحاسبة من قبل الوزارة المختصة، وجعل درجات الثانوية العامة تحت إشراف الوزارة 100% وذلك ليبين الغث من السمين من هذه المدارس، والخير لأول الخيل في نهاية السباق.
وأما طلاب المرحلة الثانوية فلهم الحق في تقويم مدرسيهم عن طريق الاستبيان الواضح المدروس، وليس لهم الحق في إعداد المناهج، فهي تحتاج إلى أهل خبرة واختصاص. وليس المنهاج هو السبب في تدني مستوى المتعلمين على الرغم من وصولهم المراحل العلمية العليا، بل للكثير مما ذكر خلال السطور وليس موضع البحث الآن. وبحكم اطلاعي على معظم مناهج الدول العربية، ومناهج بريطانيا وألمانيا في تخصصي (الفيزياء) فلا يوجد فرق في العناوين والمفردات، ولكن علينا إغناء مناهجنا بالأفكار والوسائل والتطبيقات والتدريبات. وكم نحن بحاجة إلى مناهج ثابتة في أهدافها، متغيرة في وسائلها تتلاءم مع العصر ومتطلباته. وكم نحن بحاجة إلى معلمين مؤهلين مدربين متابعين، وطلاب واعين راغبين. وأهل صابرين راضين تقويم المعلم كما ائتمنوه على تعليم أبنائهم.