"وجوب الستر" هو بعض مما أمر الله تعالى به وتهاون فيه الناس، وهو لا يقتصر على وجوب ستر المسلم أخاه المسلم، على ما فيه من نفع عميم وعلى ما في مخالفته من شر مستطير.
لكن الأمر يتعدى إلى وجوب ستر النفس؛ إذ قد يترتب على فضح النفس ما يترتب على فضح المسلم من آثار، لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" (البخاري ومسلم).
ومع ذلك فلن أفصل القول في مجال ستر النفس، لأن ستر النفس هو طبع البشر السليم، وفضحها لا يكون من مقاصد العاقل.
لكني سأطوف سريعا حول وجوب ستر المسلم أخاه المسلم، بداية من وقوع أعيننا عفوا على هفوته، إلى تعمد التجسس على أحواله وأسراره.
حرمة التجسس
إن التجسس مما نهينا عنه شرعا، وهو من كبائر الذنوب، فالتجسس مخالفة صريحة لأوامر القرآن الكريم، وأوامر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي أمرنا بالستر إن وقعت أعيننا عفوا ودون قصد على ما يستحيي غيرنا من رؤيته عليه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" (البخاري ومسلم)، وفي لفظ آخر: "من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة"، ولا يعقل أن يكون الستر إلا من قبيح.
ونهي القرآن عن التجسس على المسلمين واضح لا لبس فيه؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا...} (آية 12 من سورة الحجرات).
بعض دوافع التجسس
والتجسس قد يدفع إليه الفضول المحض، أو قصد الإيذاء والفضيحة، أو يدفع إليه سوء الظن -في أمر ما- بالمتجسس عليه، وهو في حال الفضول إثم مبين لا يحتاج إلى تبيين، لكن الأمر يزداد إثما وخطورة حين يكون التجسس على المسلم بقصد إيذائه وفضحه وإحراجه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وسَم من يفعل ذلك من طرف خفي بأنه قد يكون منافقا؛ فقال صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي برزة الأسلمي: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" (أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى).
لكن التجسس في حال الظن قد يكون شبهة لدى المسلم؛ لذلك نسوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "ثلاث لازمات لأمتي: سوء الظن، والحسد، والطيرة.. فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فاستغفر الله، وإذا تطيرت فامض" (ابن حبان والطبراني).
وفي هذا الحديث رد صريح على من تسول له نفسه أن يتتبع العورات بسبب سوء الظن، وحجته أن يقطع الشك باليقين؛ فتطوع له نفسه أن يتجسس على المسلم أو المسلمة؛ فيحدث ما لا تحمد عقباه، ولعله يكون أول من يحترق بنار مخالفته، ناهيك عن أن سوء الظن بالمسلم أصلا مما نهينا عنه شرعا.
وسأحاول في إيجاز ذكر بعض آثار التجسس التي تهلك أول ما تهلك المخالف (المتجسس) بل منها ما يؤدي لإهلاك المجتمع كله، ثم أتبعها بتوضيح لكيفية الجمع بين الأمر بتغيير المنكر والأمر بالستر.
أما الآثار فهي كما يلي:
المخالفة الشرعية، وفقدان الأجر
انهيار القدوة
هوان الذنب
التجرؤ على الذنب
المجاهرة بالذنب
شيوع المنكرات
فقدان المودة بين الأحباب
فقدان الثقة بالنفس
أما المخالفة الشرعية فواضحة لما مر من أدلة، وعلى رأسها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا...} (آية 12 من سورة الحجرات)
ولا يخفى على عاقل أيضا ما يحدث لو كان المتجسس عليه في منزل القدوة؛ فإنها لا شك تنهار وتتلاشى، فمن ذا الذي يقتدي بشخص يعلم عيبه ونقيصته؟ ومن ذا الذي يقبل التوجيه ممن يعلم أن خلوته فيما لا يليق.
إننا مهما طنطنا بأن "كل بني آدم خطاء" وبأنه "لو لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من وجد نفسه بلا منكر فلن يأمر أحد أو ينهى لأنه ببساطة لا أحد يخلو من ذنب".. مهما حاولنا إقناع أنفسنا بهذا نظريا فلربما عجزنا عن السيطرة على مشاعرنا نحو من علمنا عنه السوء والنقيصة، فقد يكون رد الفعل منا لاإراديا.. حتى لو ملكنا أنفسنا في ساعات الصفا فماذا عسانا أن نفعل في غيرها، وحتى لو فرضنا أن من الناس من يستطيع التعامل مع هذا الموقف بحكمة وتعقل فإننا نجزم أنهم قلة والكثرة الغالبة على خلاف ذلك.
ولا شك أننا حين نرى صاحب القدوة -المفترض فيه الترفع عن النقائص والذنوب- على حال غير حميدة متلبسا بذنب ما.. لا شك أن ذلك قد يهون وقع الذنب نفسه على قلوبنا ولسان حالنا يقول: "إن كان هذا فلان القدوة يعمل كذا وكذا فلماذا نلوم الفاعلين مثله.. إذا كان هذا صاحب العلم والتوجيه فما بالنا بغيره... وهكذا.
ثم لا شك أيضا أن هذا قد يجرئنا نحن على المعصية دون أن نلوم أنفسنا أو نقرعها كما ينبغي، ولسان الحال يقول: "هون عليك.. كل الناس تفعل.. أنت لست وحدك الذي تفعل كذا.. إذا كان فلان (القدوة) يفعل...الخ".
ومعلوم أن الإنسان المخطئ يهون عليه أن يرى غيره على نفس الخطأ فإن ذلك مما يخفف حدته في نفسه، وإن الله أثبت هذه الحقيقة في القرآن حين قال عن المشركين: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً...} (آية 89 من سورة النساء).
أما على مستوى المتجسس عليه فقد يدفعه علمه بمعرفة الناس حاله -التي كان يجتهد في إخفائها ويتستر بها- إلى أن يجاهر بالمعصية، ولسان حاله يقول: "مم أستحيي وقد افتضحت؟.. قد كنت أخشى أن يراني الناس فأسقط في نظرهم وها أنا قد سقطت فمم أخاف؟... الخ".
وبالتأكيد حين يتجرؤ كثيرون على المجاهرة بالمعصية سيصاب المجتمع بوباء عام وعارم، فيزيد فيه المتبجحون ويخرج المستخفون بالمعاصي إلى النور والشوارع أمام أعين الناس مما قد يهون على ضعاف القلوب منهم مواجهة المجتمع حتى تموت قلوب الجميع وتشيع الفاحشة في مجتمع المسلمين.
وينضاف إلى ما سبق آثار أخرى حين يقع التجسس بين المتحابين أو من يفترض فيهم ذلك، ومن ذلك ما قد يقع بين الأصحاب من أن المتجسس غالبا ما يتغير قلبه ناحية المتجسس عليه فإن كان يحترمه قبل ذلك ثم رأى منه العيب والنقيصة فإنه لا شك يقل احترامه له إن لم يندثر تماما.
وكذلك لو علم المتجسس عليه أن فلانا تجسس ورأى منه العيب والنقيصة فإنه سيظل الدهر كله لا يطيق رؤيته، إن لم نقل يكرهه، مهما تحامل على نفسه ليظهر بغير هذا إن حتمت الظروف.
ولقد حدثني بعض الأصحاب أنه مرة فتح جهاز كمبيوتر لأحد أصدقائه في غيبته -ولم يكن يقصد التجسس- لكنه من باب الفضول أخذ يتصفح أجزاء الجهاز فوقعت عينه على ما لا يليق.. يقول صديقي المتحدث: فتغير قلبي عليه لاإراديا، وأنا الذي كنت أجله وأحب قربه قبل اليوم، وكانت المصيبة الكبرى حين علم صديقي بما كان مني فتغير عليّ، ومن يومها ما صفوت له ولا صفا لي.
ويزداد الأمر خطورة حين تكون العلاقة مما لا يسهل بترها وحين تكون تبعاتها خراب بيت ونهاية أسرة وتشريد أطفال، وهي علاقة الأزواج أو علاقة الآباء والأبناء، ففقدان الثقة في هذه الحالة حادث لا ريب، وتكون أول ما تكون في الشخص المتجسس عليه ثم لا تلبث أن تتعداها إلى كل بني جنسه، فتنعت الزوجة كل الرجال بما رأت من زوجها وينعت الزوج كل النساء بما رأى من زوجته، ويخيل للأولاد ذكورا أو إناثا أن لا أب ولا أم في الحياة إلا وفيهما ما في أبويهما، وقد ينتهي الأمر بفقدان الثقة في النفس.
بيد أني أريد التفريق في حالة الأزواج بين أنواع التجسس، ومثلها حالة الآباء والأبناء؛ لأن في هاتين الحالتين شبهة المسئولية التي قد تسوغ عند البعض التجسس والاطلاع على الخصوصيات دون استئذان بدافع الحرص والحماية.
ومن التجسس في هاتين الحالتين نوع غير وارد بالمرة عند الأسوياء من البشر وهو التجسس بقصد الفضيحة، فإن من يفعل أو تفعل ذلك قد تجرد من كل معاني الإنسانية فضلا عن معاني الدين، وأما التجسس للفضول المحض فهو مما لا شك في حرمته.
أما التجسس بسبب الشك فيبقى محتاجا إلى تأمل وتدبر، فهل يعد إلقاء الزوج أو الزوجة بنفسها في موضع الشبه مسوغا للطرف الآخر أن يتجسس؟.
أرى والله أعلم أنه مما لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة فعله؛ إذ الآثار المترتبة عليه لا يغني في دفعها أن يُعتذر بخطأ الطرف المتجسس عليه، ثم إن في ذلك مخالفة للهدي النبوي الذي نهانا عن التحقق من الظن: "ثلاث لازمات لأمتي؛ سوء الظن، والحسد، والطيرة.. فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فاستغفر الله، وإذا تطيرت فامض".
فالأولى عند مطاردة الظن السيئ خاطر المسلم أن يتجمل بأدب الإسلام؛ فلا يتحقق بالتجسس، وليدفع عنه وساوس الشيطان ولو كان طرفا مضارا كزوج أو زوجة، وليعلم أن الله لا يهمل ظالما بل يمهله عله يتوب ويرجع، وليكن لسان حاله: إن كان ظني في محله فالله سيأخذ لي حقي، وإن كنت ظلمت شريكي بسوء ظني فحسبي توبة أني لم أتتبع وأني دافعت كيد الشيطان.
بين وجوب الستر والتغيير
لا يعني ما قدمت في حديثي أن نترك المخطئ الذي علمنا خطأه -إما بمحض القدر، أو لمجاهرة المخطئ نفسه، أو بالتجسس على ما فيه من إثم شرعي- بلا نصح ولا توجيه، فليس معنى الستر الرضا بالمنكر أو إقراره.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في معرض شرحه لحديث ستر المسلم:
[قوله "ومن ستر مسلما" أي رآه على قبيح فلم يظهره، أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه].
وأرى في هذه المقولة تلخيصا وتوضيحا شافيين كافيين؛ فالستر معناه ألا أحدث الناس بما رأيت وألا أفضح وألا أستغل الموقف للإذلال وإدراك المكاسب... الخ
لكن تغيير المنكر ليس من شرطه أبدا أن يكون على الملأ، بل هو في السر أولى وأوقع وأقرب للقبول، غير أني أريد التفصيل قليلا في هذه الجزئية:
النصيحة المباشرة في السر تصح حين يكون من رأيته على السوء عالما بأني رأيته، وحين أتأكد أن ذلك لن يجرح شعوره.
أما إن لم يكن عالما بأني رأيته على السوء أو حين يغلب على ظني حرجه الشديد من نصيحتي المباشرة فالأولى عندئذ النصح غير المباشر، بأن أصحبه لدرس مثلا يتكلم عن القضية المعنية، أو أهدي إليه كتابا أو شريطا مسجلا في القضية، أو أفتح الموضوع معه للنقاش العام كأنها مشكلة عامة لاحظتها في المجتمع ونريد معا أن نفكر لها في حل... الخ من الوسائل غير المباشرة، والتي يجب أن يصحبها الشفقة والرحمة لا الشماتة والتشفي والفضيحة، ولا ننسى أيضا الاستعانة بالدعاء إلى الله أن يهدي فلانا، وأن نحمده أن عافانا مما ابتلاه به.