منذ عصر فلاسفة الإغريق، كان هناك عدة آراء لتفسير طبيعة الكون، لكن أهمها هي أن الكون متكون من الطبيعيتين المادية والروحية. كان أفلاطون و أرسطو من اشهر فلاسفة الإغريقي قاطبة ، قما اللذين بوضع كل منهم صيغة فلسفية حول علاقة الروح بالجسد المادي ، وقد كانت نظرية (المُثل ) التي وضعها أفلاطون هي الاكثر تأثيرا على فكر الإنسان بأجمعه عبر كل العصور ، والتي فيها حاول إيجاد الصيغة المثلى لكيفية وجود الكون . ومنذ ذلك الحين راحت كل المدارس الفكرية وحتى بعض الاديان التي جاءت من بعده ، تتبنى فكرته، فتضع نظريات جديدة، أو أفكار جديدة عن طبيعة الكون ولكنها اغلبها مستقاة من نفس فكرة المُثل.
لكن عند ظهور بوادر النهضة الأوربية في منتصف الالفية الثانية، ظهرت بذور هذا الصراع من جديد بين الفلاسفة . فراح كل فيلسوف او مفكر او عالم ، يسأل نفسه هل الكون هو أحادى الطبيعة أم ثنائي؟ هل هو روحي اي ( فكري ) فقط؟ أم هو مادي فقط؟ أم هو الاثنين معا؟ وما هي العلاقة بينهما؟ او كيف تنتقل المعرفة بين المادة والروح؟.
ربما كانت الشرارة الاولى لهذا الصراع قد بدأت على يد الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكون.حين وضع طريقة البحث العلمي الحديثة (نظرية الاستقراء) التي فصلت الفكر الديني عن العلمي .
لكن الصراع الفكري اصبح اكثر واضحا، عندما تجرأ توماس هوب (انكليزي) و اعتبر الكون كله مادي ناكرا وجود الروح والله بصورة مطلقة. وهكذا جاء سبينوزا (يهودي هولندي)من خلفه ليعيد الفلسفة الحلولية القديمة ويعتبر المادة التي يتكون الكون والله منها هي شيء واحد، هي الطبيعة بذاتها. كانت هذه الأيام هي أيام محاكمة غاليلو الشهيرة وكوبنكريوس اللذين برهنا للعالم، أن الأرض كروية الشكل وليست مسطحة تدور حول الشمس وليس بالعكس، لذلك كانت رغبة الشهرة والمغامرة لاكتشاف عالم المجهول تملء قلوب كل الباحثين والمفكرين ولذلك بدأت القوالب و الإنجازات الفكرية للحضارات القديمة بالسقوط والزوال (كما يحدث في هذه الايام !! ).
هكذا جاء دور الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي أزاد الطين بلة،حيث اعتبر الكون من طبيعتين أساسيتين غير متداخلتين التأثير، هما الروح والمادة ، وانهما يرجعان إلى الطبيعة المطلقة (الله) التي لها تأثير منفصل على كل واحدة منها. وسميت هذه بالاثنينية . لكن هذه النظرية خلقت مشكلة كبيرة فيما بعد ، وطرحت اسئلة لم تحل لحد الان وهي كيف تتم عملية انتقال المعرفة بين المادة والروح بدون وجود اتصال أو تأثير بينهما؟
هكذا توالت محاولات الفلاسفة واحدة تلو الأخرى في وضع نظريات فلسفية جديدة عن طبيعة وجود الكون .
لكن النهضة الفكرية بدأت شيئا فشيئا تميل إلى الفكر الإلحادي أو المادي الذي ينكر وجود الله.
اقلق هذا الامر كثير من الفلاسفة والمفكرين لاسيما المتأثرين بالفكر الديني ، هكذا جاء دور جورج بيركلي (مطران انكليزي) ليُدخل الفكر الإنساني في عصر جديد من الفكر بتأسيسه فكر الفلسفة المثالية (افلاطون لا يعتبر عند البعض مؤسس المثالية لانه لم ينكر وجود عالم المادة)، وفيها يحاول إثبات عكس ما ذهب اليه توماس هوب ،وهي عدم وجود المادة إطلاقا في الكون، وان كل ما هو موجود، هو على صيغة روح من عند الله وان أفكارنا هي ايضا من عند الله الذي خلق كل الموجودات .
ثم جاء دور ديفيد هيوم ( انكليزي) لينكر وجود المادة والله معا.
هذا كان كله كان من إنتاج الفكر الإنكليزي أو الهولندي أو الفرنسي.
أما فلاسفة الألمان حاولوا التركيز على طريقة انتقال المعرفة إلى الإنسان ومدى دقتها، من اشهر النظريات الموجودة هي نظرية موناد لفيلسوف ليبنتز (الماني)، الذي حاول فيها تفسير مفهوم القوة والطاقة بصورة علمية ودينية معا، اي حاول اعادة اللحمة بين المدرستين المادية والروحية، فاعتبر الكون كله مكون من هذه الوحدات، التي لها المقدرة على الحركة وسماها موناد، وان كل واحدة من هذه الموناد تختلف من الأخرى من حيث درجة نقاوتا أو بمعنى اخر الوعي التي فيها، وان الله هو وحدة موناد ذات النقاوة المطلقة في الكون.
اما الفيلسوف الالماني المشهور عمانوئيل كان هو صاحب اعظم نظام كوني لحد الان، فقال كل ما نملكه من المعرفة، ينتقل إلينا من الطبيعة عن طريق الحواس، ولدى عقلنا قوالب ثابتة تصنف هذه المعلومات في حقولها الاثني عشر. وهناك كونيين أحدهما مبني على الخبرة و الآخر على المنطق، يجب ان نؤمن بوجودهما . هناك أشياء ضرورية الوجود مثل الله والحرية و الخلود والأخلاق يجب الايمان فيها وان لم يكن بمقدرنا ايجاد البرهان العملي لها.
جاء من بعده فخته وشلينج وهيجل كلهم فلاسفة المان، فخته اعتبر الكون مكون من وحدات (مثل ليبنتز ) لكنها روحية وليست مادية على غرار نظرية (بيركلي)، شلينج اعتبر الله والكون شيء واحد على غرار (سبينوزا) . لكن هيجل ، الفيلسوف الكبير ، أراد أن يجمع افكار هؤلاء الثلاثة في صيغة توفيقية واحدة، حيث اعتبر الكون كله في عمليات ديالكتيكية (تعارضية) تمر في مراحل تطويرية من مرحلة اللاوعي إلى مرحلة الوعي الكامل للذات، وتصل درجة امتلاك الحرية المطلقة كما وصفها فختة ، أي الكمال (حسب المفهوم الديني).
وان هذه العمليات هي فكرية أو روحية ولذلك الكون كله عبارة عن فكر وروح، ولا يوجد أي جزء منه مادي، هكذا وصلت المثالية اعلى قمة لها على يد هيجل.
بسبب هذه المثالية المجردة البعيدة من الواقع و التي كانت صعبة الفهم من قبل كثير من الفلاسفة ، جاءت الواقعية كرد فعل لها، ومن ثوب الواقعية خرجت الوجودية الى وجودها العلني كمدرسة فكرية ثائرة في القرن العشرين، بعدما كانت بذورها مطمورة منذ مبادئ المنطق الاولية لارسطو .