من المفيد أن نسترجع تطور التراجع العربي أمام المشروع الصهيوني، والذي يرجع أساساً إلى معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، التي فتحت الباب واسعاً إلى اتفاقي وادي عربة وأوسلو، حتى وصل الأمر إلى التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ثم اختتمت هذه الحلقة بقرار لجنة المتابعة العربية التي يقتصر اختصاصها على بحث مصير هذه المبادرة. ولكن هذه اللجنة قررت أن تنوب عن كل الحكومات العربية في مجال مختلف، وهو قرار الموافقة لأبو مازن بالتفاوض مع إسرائيل، وهو قرار لا يعني شيئاً من الناحية العملية سوى منح إسرائيل رخصة عربية رسمية لتغطية ممارساتها. فالحكومات العربية اكتفت بالهمس حتى لا تزعج إسرائيل والولايات المتحدة.
وربما شعرت هذه الحكومات بعظم هذا الذنب خصوصاً أنها عجزت طبعاً عن التوفيق بين الفلسطينيين لأنها اختارت طريق أوهام السلام والتفاوض حتى تبرئ نفسها من أن تتخذ خياراً آخر. انطلاقاً من هذا الافتراض، فإن احتمالات الموقف العربي تدور حول احتمالين: الاحتمال الأول، استمرار المخطط الصهيوني والسقوط العربي على رغم المقاومة الفلسطينية لهذا المخطط، على أساس أن هذه المقاومة لا تتوافر لها عوامل الاستمرار وأن هذه الحكومات لا تتعاطف مع المقاومة على رغم أنها تكرر في كل خطبها مركزية القضية الفلسطينية وقدسية الأقصى، وتكرر في خطب زعمائها في المناسبات الدينية بأنها حريصة على حماية المسجد الاقصى، على رغم أنها أول من يعلم بالخطط الإسرائيلية ضده. هذا هو الاحتمال الأرجح في هذه الظروف.
الاحتمال الثاني، هو أن تقرر الحكومات العربية أن المقاومة أولى بالمساندة وأنها الطريق الوحيد بعد أن فشل طريق التفاوض وشعرت الأمة بالاستخفاف والهوان من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، بخاصة أنها تشهد مسرحية هزلية بينهما ويعلم العالم العربي مدى الاتفاق الكامل بين الشريكين.
غير أن خيار المقاومة يتطلب أن تعلن الحكومات العربية صراحة فشل خيار السلام واللجوء إلى خيار المقاومة كورقة سياسية مهمة، وتعود مرة أخرى إلى مقاطعة حازمة لإسرائيل، وليست هناك حاجة لقطع العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل وكل من مصر والأردن. وتحتاج المقاومة أيضاً إلى فتح الحدود والسلاح والعتاد ولكن ذلك يتطلب موقفاً ديبلوماسياً وإعلامياً لإقناع العالم، لأن إسرائيل وصلت إلى مرحلة من التوحش لا يمكن السكوت عنها وأنها أثبتت إدمانها المراوغة والتوسع ثم الإعلان الصريح عن التهويد، في الوقت الذي بلغ التسامح العربي حداً أصبح يشجع إسرائيل على هذا التمادي. هذا التمهيد أساسي حتى لا يعود العالم مرة أخرى إلى وصم هذه المقاومة بالإرهاب ولا بد أن يوضح العالم العربي أنه انتظر طويلاً حتى يتحرك العالم من دون جدوى، وأن مساندة العالم العربي للمقاومة سيترتب عليها سلوك عدواني إسرائيلي، ما يؤدي إلى تفجير المنطقة وتتحمل إسرائيل والعالم نتائج ذلك.
وأخيراً، لا أظن أن التنسيق الأمني الإسرائيلي والأميركي مع أبو مازن ينسجم مع هذه الحالة الجديدة، ولذلك فإن الخطوة الأولى يجب أن تكون مطالبة العالم العربي بوقف كل أشكال التعاون مع إسرائيل والعمل بدلاً من ذلك على ترك المقاومة التي لم يكن دعمها ضمن الخط الجديد للعالم العربي.
قد يبدو هذا الخيار وهماً لأن الأنظمة العربية تفرّط بالمقاومة وتتراجع أمام إسرائيل والثمن هو بقاؤها مع كل ما يحيط بها من تبعات سلبية وإنكار لحقوق شعوبها في الحياة الحرة الكريمة. وهذا التماثل بين الهموم الشعبية والهم الفلسطيني هو الذي يدفع عادة إلى التضامن بين الجانبين، فهل يمكن فك التحالف في المصلحة بين إسرائيل وبعض الحكومات العربية، خصوصاً أن هذه الحكومات ستتحمل آثار الانفجار الذي يتسبب عن السياسات الإسرائيلية في القدس وفلسطين؟.