نشوء العقدة الفلسطينية
نشأت القضية الفلسطينية عن صراع ثلاث قوى هي الإمبريالية البريطانية والحركة الصهيونية والحركة القومية العربية، فقد بدأت بريطانيا تهتم بفلسطين بسبب تجارتها مع الهند وبدء تفكك الإمبراطورية العثمانية، ولم تكن بريطانيا ترغب في أن ترى روسيا متمركزة على البوسفور، وقد بدأت بريطانيا بخدمة ملاحة منتظمة إلى البصرة والسويس، وإلى كل من مصر وسوريا.
وقد كانت حملة نابليون واحتلاله لسوريا الطبيعية حملة سياسية تهدف إلى تهديد الإمبراطورية البريطانية في الهند وإلى توسيع الإمبراطورية الفرنسية، وعلى أثر ذلك حدثت نقطة تحول في السياسة البريطانية بدأت بتوقيع سلسلة اتفاقات مع أمراء ومشايخ سواحل شبه الجزيرة العربية، واحتلت المواقع الإستراتيجية والاقتصادية الهامة التي يمكن أن تقطع الطريق على أية قوة تهدد الهند، كما عاونت القوات البريطانية القوات العثمانية من أجل إجلاء القوات الفرنسية عن مصر سنة 1901م.
وفي عام 1807م حاولت بريطانيا احتلال مصر ولكنها فشلت في ذلك، ويرى بعض الكتاب أن حملة فريزر كانت للاستكشاف بهدف توطيد المواقع الاقتصادية في مصر بعد بدء تقلص نفوذ المماليك حلفاء بريطانيا وصعود نجم محمد علي الذي كان يبدي ميلا للفرنسيين، وهذا الافتراض غير مقبول، لأن نابليون سيطر على أوروبا وشكل تهديدا خطيرا لمصالح بريطانيا مما فرض عليها ضرورة مواجهته، وعندما حاول محمد علي إقامة الدولة العربية الكبرى بين 1831 – 1840، قاومت بريطانيا بوضوح وعنف هذه الدولة التي امتدت من مصر عبر سوريا الطبيعية إلى حدود آسيا الصغرى، وتعاونت مع تركيا ومع دول أوروبا لإجلاء القوات العربية المصرية عن سوريا وحصر الدولة الحديثة التي أنشأها محمد علي في حدود مصر.
وقد كتب بالمرستون إلى سفير بلاده في نابولي يقول: " إن هدف محمد علي الحقيقي هو إقامة مملكة عربية تضم جميع البلاد التي تتكلم العربية، وقد لا يحتوي هذا المشروع على ضرر ما في حد ذاته، ولكنه سيؤدي إلى تقطيع أوصال تركيا، وهذا ما لا نرضى عنه، وفضلا عن ذلك فلا نرى سببا يبرر إحلال ملك عربي محل تركيا في السيطرة على طريق الهند".
الكولونيالية البريطانية تصبح صهيونية قبل نشأة الصهيونية
كانت محاولة محمد علي نقطة البداية، فقد أبرز ناحوم سوكولوف الصلة بين محاولة محمد علي إقامة الدولة العربية الكبرى وتبني بريطانيا للفكرة الصهيونية قبل أن تنشأ أية منظمة صهيونية أو قبل أن يضع أسسها أي يهودي، فبعد إعادة قوات إبراهيم باشا إلى مصر برزت مسألة مستقبل فلسطين، وكان السائد في الرأي العام البريطاني ضم عكا وقبرص إلى بريطانيا، فاحتلت بريطانيا موقع عكا الحصين لضمان حرية الطريق إلى الهند، وهكذا فكرت بريطانيا في استغلال رغبة اليهود في العودة إلى سوريا واعتبرت أن استعمار العبرانيين لسوريا أرخص وأقل تكلفة، وقد تحدث شافتسبري عن اليهود سنة 1876م وقال إن سوريا تحتاج إلى مال وسكان، واستنتج أن اليهود يستطيعون تزويدها بالأمرين معا، وقد أكد ناحوم سوكولوف في كتابه "تاريخ الصهيونية" ج 1 ص 206" أن الفضل يرجع إلى بريطانيا في استيطان اليهود في فلسطين.
يرى الكولونيل جورج جولر حاكم جنوب أستراليا أن القدر وضع مصر وسوريا في طريق تجارة بريطانيا إلى الهند، وأن استيلاء أي دولة على مصر وسوريا يقطع هذا الطريق وأن القدر يدعو إنجلترا إلى تحسين وتطوير سوريا بنشاط بني إسرائيل ومساعيهم، وقد كتب هولنغورث سنة 1951 أن إقامة الدولة اليهودية في فلسطين لم يكن عملا إنسانيا وعادلا؛ بل ضرورة سياسية في الذهن البريطاني لحماية الطريق عبر آسيا الصغرى إلى الهند، وكان المحرك المباشر هو الحديث عن قناة السويس الذي حرك الفرنسيين للتفكير بالفكرة نفسها، كما يظهر في كتاب دينبي " المشكلة الشرقية" وكتاب لاهرامي " المسألة الشرقية" .
وقد كانت هناك في دمشق عائلتان يهوديتان تملك كل منهما مليون ونصف مليون جنية وهي ثروة ضخمة في ذلك، مما جعل بريطانيا تبسط حمايتها على يهود الدولة العثمانية، خصوصا وأن فرنسا بسطت حمايتها على الكاثوليك، وبسطت روسيا حمايتها على الأرثوذكس، في حين لا يوجد متحيزون لبريطانيا في الدولة العثمانية، وقد وجدت بريطانيا نفسها في حاجة إلى طائفة لتواجه روسيا القيصرية وفرنسا؛ فتوكأت على اليهود، كما لجأت إلى الزعماء الدروز، ووجدت فرنسا بغيتها في زعماء الموارنة وروسيا في زعماء الروم الأرثوذكس.
وقد احتاجت بريطانيا إلى فكرة بعث إسرائيل في فترة المزاحمة الحرة، ولم تكن في حاجة لها في وقت الصراع الشديد مع فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر لأن ميدان الصراع كان محصورا في مصر وأفريقيا وبالتالي لم يكن من الممكن الاستفادة من صهيونية بريطانيا الكولونيالية، وقد تحولت الصهيونية آنذاك إلى صهيونية يهودية، وأصبحت منظمتها تحتل مكانها في المحافل الدولية.